ذكر ابن عساكر: (أن الخطيب عندما حج كان يدعو بثلاث دعوات أن يحدث “بتاريخ بغداد” بها، وأن يُملي الحديث بجامع المنصور، وأن يُدفن بجوار بشر الحافي فأعطاه الله الثلاث)، كيف لا يكون وذلك وهو أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين، حافظ المشرق، الناقد، صاحب التصانيف وخاتم الحفّاظ، حافظ العصر وعمدة المؤرخين، إنه الحافظ أبوبكر، أحمد بن علي بن ثابت البغدادي.
ولد البغدادي بالقرب من بغداد في العام (392 هـ)، تعلم القرآن والفقه والحديث وهو لم يبلغ الثانية عشر، وفي عمر العشرين عقد العزم فرحل إلى البصرة لسماع الحديث ومن ثم الكوفة فبغداد، ثم في عامه الثالث والعشرين رحل إلى نيسابور وأصبهان وهمذان والجبال والدينور وعاد إلى بغداد بعد أن مكث في دمشق وصور، محدثاً وراوياً كبيراً، البغدادي هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي ويكنى بأبي بكر واشتهر بالخطيب البغدادي، وفي كتابه “تاريخ بغداد” ذُكِر أنه من العرب نواحي الفرات.
نشأ الخطيب البغدادي في القرن الخامس للهجرة، في مدينة السلام (بغداد) وارتحل منها إلى دمشق، في عصر اتسم بالحروب والتنافس بين المدارس الفقهية، إلا من الناحية العلمية التي لم تتأثر بالجو السياسي آنذاك، فلم يوقف شيء سير العلم والعلماء أو الحد من نشاطهم، وكان عصره، عصر علمٍ، فالخطيب البغدادي ارتحل من بغداد إلى البصرة وإلى خراسان متزوداً بزادٍ علمي غزير، وعن أساتذة كبار كانوا في عصره، مثل المحدث الكبير أبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر البرقاني، ومن شيوخه الفقهاء أمثال، أبو إسحق الشيرازي، وأبو الطيب الطبري والمحاملي وابو الصباغ وغيرهم، وفي عصره أيضاً، كان الاهتمام كبيراً بالمصنفات في شتى العلوم الإسلامية، اتسمت بالدقة والتهذيب والتبويب أعطت العلوم صيغتها النهائية وقعّدت قواعدها، مثل السنن الكبرى والمستدرك على الصحيحين للحاكم والحلية وغيرهم من كتب الحديث والفقه والتفسير التي أصبحت عمدة المتأخرين وأصبحوا لما لهذه المصنفات من معلومات معتمدين.
لم يكن يسمع البغدادي بمحدث إلا وذهب إليه لغاية في نفسه وهي جمع الحديث من أفواههم، وبعد أن التقى جميع محدثي بغداد وأخذ الحديث عنهم، ليخرج خارجها ويأخذ عن محدثي الأقطار الأخرى، وهذا إن دل على شيء يدل على أن علم الحديث شغفه حباً، الخطيب البغدادي خصص حياته للعلم وسافر إلى مدن كثيرة للاجتماع بالشيوخ وأخذ الحديث عنهم حيث سمع من أعيان المحدثين كما أشرنا ببغداد أولاً، ثم من مشاهير محدثي البصرة ثانياً ومن نيسابور وأصبهان واجتمع بكبار الحفاظ وأخذ الحديث عنهم، وبالدينور وهمذان والكوفة والري والحرمين ودمشق وصور والقدس وغيرها، ولأنه عالم كبير وإمام حافظ اعتنى بالتصنيف وأملاها إملاءً في كل المدن التي زارها، وهذا أمر طبيعي لإمام متقنٍ لعمله ورواياته ومصنفاته، ووصفه ابن الأثير بأنه (إمام الدنيا في زمانه)، لقد كان الإمام أحد الأئمة المكثرين في الحديث والمجيدين له والبارعين فيه، فكان يكتب عن آثار الأئمة كالإمام مالك والإمام أحمد وسفيان الثورة وكان منهجه أن الدين بالآثار والنصوص لا بالرأي المجرد عن اعتماد النصوص، وقال في هذا الشأن: (فلو أن صاحب الرأي المذموم، شغل نفسه بما ينفعه من العلوم، وطلب سنن رسول رب العالمين، واقتفى آثار الفقهاء المحدثين، لوجد في ذلك ما يغنيه عمن سواه، واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه، لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء في الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين، والأخبار عن الجنة والنار، وما أعده الله فيها للمتقين والفجار، .. إلخ).
لقد وفق الخطيب البغدادي بين الفقه والحديث وبين أصحاب الحديث والفقهاء لأنه لا بد لصاحب الحديث من الاستفادة من الفقهاء وسلوك طريقهم في فهم النصوص، كما أنه لا بد للفقيه من الاستفادة من المحدثين الذين يمدونهم بالنصوص، التي هي مجال فقههم واستنباطهم، ووضع البغدادي بعض كتبه لهذه الغاية مثل، (شرف أصحاب الحديث وكتاب نصيحة أهل الحديث)، ومن روائعه أيضاً (تاريخ بغداد) التي وصفها منذ أن بنيت حتى وفاته.
بالتالي، الخطيب البغدادي بدأ حياته العلمية حافظاً للقرآن، متعلماً للقراءات وبدأ بسماع الحديث في سن مبكرة (11 عاماً)، ودرس الفقه على يد كبار الفقهاء في عصره، لقد كان البغدادي من كبار أئمة الحديث وحفاظه العارفين بطرقه وأسانيده وأحوال رواته، وكتاب “تاريخ بغداد” خير شاهد على الباع الطويل الذي يملكه في علم الرجال، وأما كتابه “الكفاية” فيُعتبر الحجة في مصطلح الحديث، لقد أولى علم الحديث الاهتمام الكبير، وقال عنه، أبو بكر محمد بن عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع الحنبلي: (كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه)، وقال السمعاني: (صنف قريباً من مائة مصنف صارت عمدة لأصحاب الحديث)، ومن أشهر مصنفاته في علم الحديث: (الكفاية، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الفصل للوصل المدرج في النقل، تقييد العلم، اقتضاء العلم العمل، شرف أصحاب الحديث، بيان حكم المزيد في متصل الأسانيد، الرحلة في طلب الحديث، نصيحة أهل الحديث، الإجازة للمجهول والمعدوم، علم رجال الحديث، المتفق والمفترق، تمييز المزيد في متصل الأسانيد، المكمل في بيان المهمل، السابق واللاحق، الرواة عن مالك بن أنس، الرواة عن شعبة) وغير ذلك الكثير.
إن قيل عنه إنه الحافظ، بالتحليل والمنطق وما وصل إلينا من معلومات من سير التراجم والأعلام وغير من المصنفات التي تتحدث عن هذا العالم الجليل، أن والد الخطيب البغدادي كان خطيباً للقرية وممن قرأ القرآن على يد أبو حفص الكتاني؛ ولهذا لُقب بالخطيب، فاهتم بابنه ودفع به إلى مجالس العلم، فسلمه إلى هلال بن عبدالله الطيبي لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن والقراءات، فبرز نبوغه فحثه والده على سماع الحديث وهو في الحادية عشر من عمره، وأخذ الابن يسافر من بلد إلى آخر؛ ليحقق رغبته في تحصيل العلم فارتحل إلى البصرة وهو في العشرين من عمره، ثم ذهب إلى نيسابور وإلى الشام ومكة، وقرأ “صحيح البخاري” في خمسة أيام بمكة المكرمة على كريمة المروزية، فاشتهر بسعة علمه وروايته، كما جمع وصحح وعلل وجرح وعدل وأَرخ، فصار أحفظ أهل عصره على الإطلاق وكتب الكثير من الكتب التي تركت علامة بين أهل العلم، أهمها: “تاريخ بغداد” في أربعة عشر مجلداً، تُرجمت مقدمته في باريس في 300 صفحة على يد المستشرق سلمون، (الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع)، و(الكفاية في علم الرواية)، و(لبخلاء)، و(الأسماء والألقاب) وقد أوقف كتبه كلها، ولم يتوقف نشاطه على العلم والثقافة وإنما كان يقرض الشعر أيضاً، فإن قيل إن الحافظ الأول هذا الموروث يؤكد ذلك، لقد خاض رحلة علم من ألفها إلى يائها، وثق وتعب وحقق وصنف ووضع الضوابط والشروحات المستفيضة، عندما يٌقال الإمام والحافظ الكبير فلتعلموا أننا في حضرة “أبي بكر البغدادي” رحمه الله تعالى.
بالتالي، تاريخ بغداد هو الشاهد الحي، إلى جانب مصنفاته الكثيرة الموجودة في مكتبة الظاهرية في دمشق إلى اليوم، تاريخ مدينة السلام (بغداد) حمل المدينة في طيات الكتاب، وكانت لها الحصة الراقية والرائعة في دقة الوصف وإجادة السرد، فلقد وصفها البغدادي بإسهاب ووصف تخطيطها، وتعداد مساجدها وحماماتها وسككها، وما كانت عليه من الحضارة والمدنية أولاً، ثم على ترجمة الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والأشراف، ثم على ترجمة العلماء من سائر أصنافهم، المحدثين والمفسرين والقرّاء، والأصوليين والمجتهدين والفقهاء، والنحاة والصرفيين والبيانيين واللغويين والمتكلمين والمنطقيين، والقضاة والفرضيين، والزهاد والنساك والمتصوفة، والقصاص والوعاظ والرياضيين والمهندسين، والفلكيين والمنجمين والموسيقيين والأطباء والصيادلة والجراحين والكتّاب والخطاطين والأدباء والأخباريين والنسابين والمؤرخين والعروضيين والشعراء والمغنين والرماة والفرسان وحذاق الصناع، هذا يدلل على أن الخطيب البغدادي لم يترك شيئاً في تاريخ هذه المدينة وما فيها إلا وضمنه في كتابه، ليكون فعلاً تاريخاً متكامل الصورة والمضمون.
وشرع الحافظ الكبير، في تراجم علماء بغداد ومن وردها من غير أهلها، وسكن بها أو حدث فيها، ورتبهم على أحرف المعجم، وتأملوا معي التبويب والترتيب في ذاك الزمان والنظام والدقة على بساطة الأدوات، لكن البغدادي رغم تبويبه على أحرف المعجم لكنه قدم من كان اسمه محمد تبركاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ورتب المشتركين بالاسم الواحد، على حسب حروف المعجم بالنسبة لآبائهم، كما رتب من كثر الاشتراك في اسمه واسم أبيه، (كمحمد وأحمد) على حسب حروف المعجم بالنسبة لأجدادهم، كما ابتدع طريقة موفقة فيمن كثر الاشتراك في اسمه واسم أبيه، فرتبهم على حسب التاريخ الزمني لوفياتهم، وتعتبر هذه طريقة جديدة في التراجم.
وبلغ عدد التراجم في الكتاب (7831) على (6500) صفحة، حيث تختلف التراجم طولاً وقصراً، وتعد ترجمة أبي حنيفة النعمان أطول ترجمة في الكتاب، وجاءت على 100 صفحة كاملة، وهنا قال لي العلامة المحدث الدكتور محمود سعيد ممدوح في حديث جمعنا في القاهرة العام 2020، أثناء زيارتي له: (الخطيب البغدادي رحمه الله قسّم ترجمة الإمام أبي حنيفة إلى قسمين، قسم أول أورد فيه التعديل، وقسم ثانٍ أورد فيه الجرح على سبيل الجمع، الإمام البغدادي هو حافظ كبير يريد أن يجمع المادة العلمية المتعلقة بالإمام أبي حنيفة جرحاً أو تعديلاً والجرح كثير لأن الإمام النعمان كان بينه وبين المحدثين خلافات كثيرة ، فأصبحت ترجمة الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت في تاريخ بغداد هي ترجمة فخمة جداً فيه جرح وتعديل وفيها إحاطة لترجمة عظيمة) بينما كانت التراجم القصيرة من نصيب للأدباء والشعراء والموسيقيين والمغنيين، والطويلة فكانت من نصيب المحدثين والفقهاء والقضاة، وأصحاب العلوم الشرعية، يليهم الخلفاء والملوك، لكن بطبيعة الحال هذا الكتاب خصّص لتراجم رجال الحديث وبيان حالهم، وأقوال الأئمة الحفاظ فيهم، من قدح ومدح وجرح وتعديل، فلقد استقصى البغدادي تراجم محدثي بغداد منذ أن بنيت المدينة إلى تاريخ وفاته، وترجم لما يقارب أربعة آلاف محدث، ليكون الكتاب المرجع الشامل لكل المحدثين الذين عاشوا في بغداد، أو قدم إليها، أو حدث بها منذ تأسيسها، وعليه يكون هذا الكتاب ثروة حقيقية لا تقدّر بثمن، وكل طالب علم يجد ضالته في القرون الخمسة الأولى للهجرة.
إذاً، كتاب “تاريخ مدينة السلام” يعكس مدى نشاط المحدثين في بغداد، الذين ارتفع شأنهم بعد تأسيس المدينة بفترة وجيزة، منهم أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والدار قطني وأبو بكر البرقاني، وأبو القاسم الأزهري، فكانت بغداد مركز اتصال مع المدن الأخرى، وفيها ازدهرت الحركة الفكرية وساعد على وجود المكتبات العامة والمدارس الخاصة بالفقه وعلوم القرآن والحديث، ليكون هذا الكتاب أضخم من أن يتسع المقام لذكره.
بالتالي، اليوم مقارنة بتلك الحقبة، تجعلنا أمام واقع خطير، إذ نادراً ما نجد محدثين جدد أو علماء في علم الحديث ساروا على هذا النهج، وأقصد تحديداً طلبة العلم المعاصرين الذين تراهم يقدمون رسائل دكتوراه حول أئمة الحديث او عن علم الحديث نفسه، فيحققون الكتب، فيتجاسرون ويكتبون على سبيل المثال لا الحصر عن كتاب الكفاية للخطيب البغدادي، ممهوراً بأنه من تحقيق “فلان الفلاني” فترى العنوان عن البغدادي مثلاً لكن المضمون لا يعكس إلا أهواء الكاتب، في أسلوب حتى كبار المحدثين اليوم لم يتجرأ أحدهم على تحقيق كتاب من كتب الخطيب البغدادي، لصعوبة هذا الفن الذي يحتاج إلى أكاديميين ومتخصصين في علوم الحديث والقرآن والفقه وغير ذلك.، وهذا الأمر يحتاج إلى مراكز متخصصة ومؤسسات ذات صلة مخصصة لعلوم الحديث تضم على الأقل 20 عالماً متخصصاً في علم الحديث عبر تزكية العلماء الكبار سواء من الأزهر أو الزيتونة في تونس يحققون كتب الدار قطني أو الخطيب البغدادي، في أيامنا هذه أجد أن دار الحديث العراقية الحالية مؤهلة لهذه الغاية، في أن تتبنى طباعة كتب علماء الحديث ورقياً وإلكترونياً، من خلال تضافر جهود علماء المسلمين والمسلمين جميعاً علماً وتبرعاً لتحقيق هذه الغاية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين على موروثنا الإسلامي الكبير.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان