قضية إيجاد العمل للجيل العماني الشاب، هي قضيةٌ مقلقة، لدرجة أن توصف بأنها “قنبلة موقوتة”، قد تنفجر في أيّة لحظة. ويجدر بي أن أضرب مثلا في مقالي هذا، بشخص واحد، آمن بقدرات الشباب العماني، وتبنّى قضية التعمين في شركة PDO التي كان يعمل فيها، ورغم أنّ الرجل عانى ما عاناه، حتى اضطر أن يترك عمله، إلا أنه حقّق إنجازات لا يمكن تجاهلها، إنه الراحل الدكتور سمير بن سعود الخروصي.
والمتأمل في قضية التعمين يُصاب بحيرة؛ إذ أنّ عدد الباحثين عن العمل من العمانيين في ازدياد، في وقت يزداد فيه عدد العمالة الوافدة، ليس في الوظائف الصغيرة فحسب؛ لكن أيضاً في الوظائف الكبيرة، ممّا يحرم الشباب العماني من أخذ فرصته في العمل، بالإضافة إلى ما تسببه تحويلات هذه العمالة من النقد إلى الخارج من مشكلة في الاقتصاد العماني، حيث لا يبدو في الأفق أنّ هناك رغبة حقيقية، لوضع حدٍ لهذه المسألة، ولسانُ الحال يقول إنّ هناك نية مبيّتة لخلق مشكلة داخل الوطن، “وممّا يحز في القلب، أنّ بعض ملاك هذه الشركات، هم من المسؤولين الذين أوكل إليهم موضوع التعمين، تنفيذياً أو تشريعياً؛ فبانعدام المُساءلة تضيع الذمم، ويعيش كلُّ شخص لمصلحته الخاصة”، كما يقول المهندس علي بن سالم الكلباني، في مقال له نُشر في جريدة الرؤية بتاريخ 23 يناير 2018، تحت عنوان “التوظيف.. تحديات التعمين والإحلال”. فالواقع الذي نعيشه الآن يقول إنّ أعداد الوافدين واضحة، ولا تحتاج إلى بيان، والكفاءاتُ العمانية جاهزةٌ لتحل مكان العمالة الوافدة، ولكن يبقى القرار – كما يرى المهندس سالم – رهناً بقلم صاحبه. ويتساءل – ونحن نتساءل معه -: ما المانع من أن يخطه لينفّذ؟ أو بالأحرى ما نوع المانع.. هل هو اجتماعي أم اقتصادي أم حتى سياسي؟!.
هناك ندواتٌ عديدة نُظِّمت، ودراساتٌ كثيرةٌ أعدّت، وتوصياتٌ كثيرةٌ رُفعت خلال السنوات الماضية، كلها تدور حول موضوع التعمين والإحلال، وخطورة سيطرة العمالة الآسيوية على كلّ القطاعات، وسط ازدياد الباحثين عن العمل من العمانيين، شاركتْ في هذه الندوات، المؤسساتُ المختلفة؛ منها مجلس الشورى، ولكن ما يؤسف له أنّ كلّ هذه الندوات والدراسات والتوصيات، ذهبت مع الريح، ولم تثمر شيئًا يُذكر، بل إنّ الأمر قد زاد سوءا بعد سوء.
عندما تكون هناك رغبةٌ حقيقيةٌ لإيجاد الحلول، فإنّ الله سبحانه وتعالى يسهل الأمر. أما أن يُترك الأمر بيد العمالة الأجنبية لتدير الأمر فإنّها حتمًا ستعمل لصالحها وستعمل ضد المواطنين. والذين يعملون في القطاع الخاص يعلمون تمام العلم، المعاناة التي يعانيها العمانيون من هؤلاء، الذين أصبحوا يشكلون “لوبيًا” خطيرًا الآن، حيث يظهر المواطنون كأنهم هم الأجانب.
نعود الآن إلى الدكتور سمير الخروصي وكفاحه من أجل التعمين. وأعتمد في السطور المقبلة على كتاب “لتنهض الأمة”، وهو عبارة عن تغريدات الراحل الشيخ خلفان بن محمد العيسري رحمه الله، والتي جمعها سالم بن سعيد بن محمد العيسري، من إصدار مجموعة مزية العالمية، إذ استوقفتني تغريداتٌ بعنوان “تجربة التعمين”؛ ففي هذه التغريدات، يذكر الشيخ خلفان، الدكتور سمير الخروصي، كأحد أهمّ من سعى إلى التعمين، وإعطاء الشباب العماني فرصته الكاملة للعمل، وذلك في قطاع هام هو قطاع النفط. ولم تكن تلك هي الميزة الوحيدة للخروصي؛ ففي تغريدات سابقة للعيسري ذكر أنّه – أي “الدكتور سمير- “هو الأب والمرجع لدينا في علم الفلك، وهو من أفضل المصوِّرين الفلكيين بالعالم، وله إنجازاتٌ عديدةٌ خدمت الوطن؛ وهو من مؤسسي متحف الطفل، والمكتبة الفنية، التي تسمى الآن بالمكتبة العامة، والقبة الفلكية، والجمعية الفلكية العمانية”.
ومنذ قراءتي لتلك التغريدات، علق اسم الدكتور سمير الخروصي في ذهني، وكنتُ أتساءل مع نفسي: كيف لمثل هذه الشخصية أن تختفي من وسائل الإعلام، ولا يُستفاد من تجربتها، ونحن في أمسّ الحاجة الآن إلى التعمين؟. ظلت تلك الأسئلة تراودني، حتى جاءني نبأ نعي الدكتور سمير رحمه الله، إذ رحل عن دنيانا عصر الثلاثاء الثامن عشر من فبراير 2020، لينضم إلى قائمة الذين اشتغلوا في هدوء، بعيدًا عن الضجيج، ولا يكاد الناس يعرفونه ويعرفون جهوده.
ولكي نتعرّف أكثر على الراحل سمير الخروصي، نعود إلى تغريدات الشيخ خلفان، التي يقول فيها : “أتذكر أيام كنتُ في شركةPDO ؛ كان هناك مدير عماني اسمه سمير الخروصي، زار منطقة فهود في بداية السنة، ووجد أنّ الوظائف الإدارية في أيدي الوافدين؛ فأمر بتعمينها خلال سنة، وقال لمديري الدوائر إنّ العقود لن تجدد في العام القادم، لكن الجماعة تعللوا، وقدّموا الكثير من المبررات، إلا أنّ سمير الخروصي سكت، مصمّمًا على رأيه. وفي شهر نوفمبر، مع اقتراب العام من نهايته، ذكّرهم بأوامره قائلا: “بقي من الوقت شهران، ولا تجديد في العقود، وإذا بقيت وظيفة شاغرة بعد 6 أشهر فإنها ستلغى”. قامت الأرض ولم تقعد، ولكن مع إصرار سمير تحقّق الهدف، وتم تعمين الوظائف؛ فالإنتاج لم يتوقف – كما زعموا -، ولا تعطلت المصالح؛ بل إنّ الوافد الغربي تعلم في النهاية كيف يتعامل مع العماني بدلا من الآسيوي.
ويحكي الشيخ خلفان العيسري رحمه الله تجربة أخرى في PDO، كان بطلها أيضًا سمير الخروصي؛ إذ ذكر المسؤولون الأجانب أنّ العمانيين لا يمكنهم إدارة محطات إلا بالإشراف من الأجانب، لكن سمير الخروصي، أعطاهم تحديًا للتجربة، قال لهم: “اختاروا منطقة من مناطق الامتياز، واختاروا الكوادر العمانية لكلّ المناصب، اعطوهم أهدافًا، والإدارةُ العليا تشرف وتراقب الأداء ولفترة سنة، إذا نجحوا نعمِّم الفكرة، وإذا فشلوا نستعين بالكوادر الوافدة”، كان هناك ترددٌ كبير ورفضٌ للفكرة من الأجانب، وللأسف من بعض العمانيين المشككين، وفي النهاية اقتنعت الجماعة، وأخذوا حقل “قرن العلم” كتجربة، وبدأ العماني يشتغل مع إخوانه، فكانت النتيجة مذهلة، وكشفت عن أشياء كثيرة لم تكن في الحسبان، وأول الحالات التي اكتشفت، هي أنّ الإنتاج ارتفع، والمحطة لم تعد تتعطل كلّ يوم مساء – كما كان يحدث يوميّا – وتكاليف التشغيل والصيانة انخفضتْ، فبحثوا عن السبب؛ فماذا وجدوا؟! وجدوا أنه كان هناك تلاعبٌ من بعض الوافدين في برمجة تشغيل المحطة، كي تتعطل خارج أوقات الدوام، وكانت الشركة تعتمد عليهم في إعادة تشغيل المحطة، ظانّة أنهم عباقرة وخبراء، بحُكم التعقيدات المصاحبة للخلل وإعادة تشغيل المحطة. انكشفت اللعبة، إذ كان هدفها الوحيد هو نيل مكافآت عمل الوقت الإضافي.
ولكن بعد كلّ ذلك؛ أين ذهب سمير الخروصي؟! يقول الشيخ خلفان: “لقد حاربوه حتى تقاعد تقاعدًا مبكرا، وتفرغ لمتابعة الفلك. لقب سمير الخروصي من قبل الأجانب بـ”الزلزال”، فقد كان جريئا في قراراته، ومنطقيّا في التعامل، وفلسفتُه تجاه العماني بأن يرفع المُجِدّ فوق الرأس، ويسحق الكسول”.
لقد نجح سمير الخروصي في إيمانه بقدرة الشباب العماني على العطاء، ونجح في تحدّيه للولبيات الأجنبية، التي رأت في الإنسان العماني، مجرّد إنسان كسول، ونجح – وهو فرد واحد – في قضية التعمين، فيما فشلت في ذلك العديدُ من الجهات. ولكن إذا كان سمير قد لقي محاربة، وإذا كان اضطر أن يترك العمل وهو في عز العطاء؛ فهل معنى هذا أنّ الرجل فشل وانهزم؟!
بعض أصحاب العقول القاصرة والنظرة القصيرة، سيرون أن سميرًا رحمه الله قد خسر، فماذا لو أنه جامل وتماشى مع الوضع العام؟!. حقيقة إنّ كلامًا كهذا كثيرًا ما قيل في كلِّ من ضحّى في سبيل قضية آمن بها، وفي سبيل راحة الآخرين؛ ويبقى أنّ سميرًا يكفيه أنه اختار ضميره، وتصالح مع نفسه؛ فأمثاله خلقوا ليعيشوا في سبيل الآخرين؛ والآخرون، دائمًا يستلمونها وهي جاهزة؛ وربما خطر على بالي في هذه اللحظة – وأنا أكتب هذا المقال -، مثال بعض الثورات والاعتصامات، ومنها اعتصامات عام 2011.
عودة إلى رأي الشيخ خلفان العيسري عن سمير الخروصي رحمهما الله، فإنه يقول: “تجربة سمير الخروصي، رسخت في ذهني وتركت أثرًا إيجابيًا في حياتي العملية والمهنية، وأقول بأني تأثرتُ وتعلمتُ من هذا الرجل الكثير في الإدارة، لقد قال لنا جملة في بداية مشوارنا العملي وكلنا حماس، وفي نفس الوقت إحباط بسبب سوء المعاملة من الأجانب.
الجملة التي قالها، أرجو من شبابنا أن يتذكّرها دائمًا وهي كالآتي: “الألماس سيظل ألماسًا، حتى لو تم التخلص منه. فاجتهد دائمًا أن تكون ألماسًا”.
بقلم/ زاهر بن حارث المحروقي