تطرح فرضية بقاء كورونا (كوفيد19) لفترة قادمة على حكومات العالم التفكير في تبني سياسات وقرارات وتوجهات تعيد الحياة إلى طبيعتها، لإنتاج فقه العيش المشترك والتعايش الندي في ظلال كورونا، وتهيئة الشعوب والمجتمعات والسياسات الحكومية والمنظومات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية للعيش في واقع مضطرب وظروف صعبة، والبحث عن آليات وموجهات جديدة تأخذ في الحسبان إعادة إنتاج السلوك الإنساني القائم على ترقية معياري الوعي والالتزام، وتعميق فرص التقارب والتعايش مع الظروف والمعطيات الجديدة التي طرحها انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد19) على الواقع البشري والتحولات المرتبطة به في مختلف المجالات الحياتية.
ومع ما يثار حول كورونا من تكهنات وشكوك أو دلائل ومؤشرات، في أسبابه ومسبباته وظروف انتقاله، وتدخل البشر من عدمه في إنتاجه كأحد الفيروسات الجرثومية، في ظل ما شهده انتشار فيروس كورونا من تداول معرفي واسع الانتشار وتزايد نشاط المواقع والمنصات الاجتماعية الرسمية منها وغير الرسمية أو تلك المصادر الإعلامية والصحفية غير موثوقة المصدر في الحديث عنه وتشخيص كنهه، وما يصار بشأنه من معلومات وأفكار وفرضيات ونظريات قد تتفق مع منطوق العقل والنقل وقد تتغاير معها؛ إلا أنه أصبح واقعا ملموسا وحدثا مشاهدا تعيش البشرية آلامه وانتكاساته ومخاطره على المنظومة الاقتصادية بكل محاورها ومكوناتها، وما فرضه من تحولات في المشهد الاجتماعي أدت إلى تغييرات في أنماط الحياة الاجتماعية اليومية، أو أحدثته من معطيات جديدة أثرت على عادات الشعوب وأساليب العيش وآليات التعامل، وأدوات الاتصال والتواصل، والمفردات الثقافية وأشكال التعابير الاجتماعية المختلفة؛ لتضع هذه المحطات جميعها العالم أمام مسؤولية الوقوف عندها، وسبر أعماقها، وقراءة أبعادها، وفهم دلالاتها، واستقراء مضامينها، وإنتاج البدائل والحلول التي ترصد تجليات هذه الجائحة في حياة البشرية، وتفرض عليه البحث عن مسارات جديدة وآليات متجددة وأدوات محكمة وأساليب مقننة ولقاءات تعزز من سقف الاتفاق والحوار والتشخيص العالمي لهذه الجائحة، للوصول إلى قرارات استراتيجية تبني أرضيات القوة في مستقبل التعامل مع هذا المرض، والمدى الزمني الذي يمكن للحكومات أن تتعاطى فيه مع الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية التي أنهكتها اقتصاديا وأضعفتها ماليا في ظل ما استدعاه الوضع من استقطاع نسب صعبه من موازناتها المالية لتوجه إلى جهودها في الحد من انتشار المرض في وقت تهبط فيه أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من أربعة عقود مضت.
ومع أن العالم وعلى مدى الأشهر السابقة شهد في تعامله مع هذه الجائحة استعدادات غير مسبوقة وإجراءات وتدابير احترازية وقائية عالمية غير معهوده في تاريخ البشرية المعاصر، إلا أن النتائج لم تكن بذلك المستوى من الرضا والثقة المترتبة عليها بتحقق نتائج فوق المتوقع أو تقترب من التوقعات على أقل تقدير، نظرا لما شهده وضع كورونا عالميا من تزايد مساحات الاجتهاد وتدخلات الهيمنة السياسية والاقتصادية في رسم معالم الطريق القادم للتعامل مع هذه الجائحة، واتساع اختلاط الأوراق لحد الانحراف عن المسار، واتساع فجوة التباعد وتصارع القوى الدولية في البحث عن حلول لوقف زحف المرض وانتشاره، وما أحدثته مسألة التباينات الحاصلة بين المجموعات الدولية في طريقة التعبير التي تنتهجها في التعاطي مع المرض، ومستوى القوة أو الشدة والمرونة أو الارتخاء التي تتبعها في التعامل مع الإجراءات، خصوصا في ظل ما يتعلق بالجانب الاقتصادي وما ترتب على تعليق كل المدخلات الاقتصادية التي تشكل عصب الاقتصاد العالمي كأحد الخيارات البديلة وأوراق الضغط المعتمدة للحد من انتشار المرض، وهو أمر لم يستطع الصمود في تقبله من قبل دول العالم المتقدمة قبل غيرها، لذلك شهد الكثير من الشد والجذب وعدم الاتفاق الجدي في التعاطي معه، وهو الأمر الذي شهد مزيدا من التباينات مع منظمة الصحة العالمية في قراءة هذا المسار ليزيد من حالة الصراع التي يشهدها سوق كورونا، وما طرح في هذا الشأن من نظريات جدلية لتدارك الوضع العالمي وتقييمه، وفرض سياسة الأمر الواقع في أيهما أولى في ظل هذه المرحلة الصعبة التي يتجه فيها الاقتصاد العالمي إلى الانحدار والانهيار، خصوصا في ظل تعليق الأعمال ووقف الأنشطة الاقتصادية الصناعية والتجارية، وغيرها بما ينعكس سلبا على كل مجريات الحياة اليومية والمشروعات التنموية؛ هل إيقاف الاقتصاد ليزيد الأمر تدهورا، أم تبني سياسات أكثر ابتكارية تبقي مع العامل الاقتصادي حاضرا مع الاستمرار في تطبيق الإجراءات والتدابير الاحترازية التي تحفظ النشاط الاقتصادي في وضعه الطبيعي وفي الوقت نفسه تقلل من تأثيرات هذه الحالة على الإنسان نفسه وتعامله مع الوصع الاقتصادي الذي يمر به، وظهرت دعوات دولية في إعادة تقييم الوضع في ظل فرضية بقاء كورونا، واتجهت الدول إلى التخفيف من الإجراءات المتخذة في سبيل عودة الحياة إلى طبيعتها مع بقاء الاحترازات الشخصية وفي بيئة العمل والاقتصاد والأماكن العامة قائمة، وعليه كانت معادلة التوازن المطروحة عالميا الطريق الذي يضمن بقاء السياسات الاقتصادية مع ضمان استمرارية الإجراءات والتدابير الاحترازية قائمة للحد من انتشار الفيروس والتقليل من خطره على السكان؛ هذا الوضع أخذ في الحسبان أيضا اتساع المعطيات السلبية الناتجة عن تصاعد أعداد الإصابات والوفيات بالفيروس حول العالم، على الرغم مما اتخذته دوله مجتمعة من إجراءات احترازية وتدابير وقائية للحد من انتشار الفيروس بين السكان، خصوصا ما يتعلق منها بالتأكيد على التقيد بإجراءات التباعد الاجتماعي والجسدي والبقاء في المنزل وعدم الخروج منه إلا للضرورة والالتزام بإجراءات العزل الصحي وغيرها من الإجراءات المتعلقة بالالتزام بالعادات الصحية السليمة في حالة العطس والسعال والمداومة على غسل اليدين بالماء والصابون وغيرها من الإجراءات المرتبطة بالتعقيم ولبس الكمامات في الأماكن العامة والتي أصبحت من المبادئ والموجهات اليومية في منشورات منظمة الصحة العالمية ووزارات الصحة بدول العالم المختلفة.
من هنا وضعت هذه المعطيات الحاصلة في ملف كورونا العالم أمام مرحلة التسليم بوجوده والامتثال لقراراته والقبول بما يطرحه في الواقع من بدائل وحلول واستراتيجيات لاستمرار الحياة والعيش معا في ظل بقاء كورونا واستمرارية وجوده في الحياة اليومية لملايين البشر حول العالم، وبالتالي أن تتخذ الحكومات والشعوب من الإجراءات والأساليب مساحة للعيش المشترك الذي يحفظ مساحات الأمان قائمة واشتراطات السلامة والصحة والأخذ بمتطلبات الحيطة والحذر والالتزام بالتعليمات باقية مع استمرار إنتاج الحياة والتعامل مع متطلباتها، في إطار من المرونة والأريحية والشعور المشترك والحس الإنساني عبر ترقية سقف الالتزام ورفع معايير الوعي وتعزيز فرص المبادرة والعمل التطوعي وصناعة القدوات والإيمان بقوة العزيمة والإرادة التي تضع حدا لهذا المرض عبر تقوية عناصر الالتزام بكل القرارات والتوجهات والمبادئ الشخصية والصحية والوطنية والإنسانية والعالمية في التعامل مع الوباء، وبهذه المعادلة يمكن الوصول إلى ضمانات تحفظ أمن الإنسان وصحته وتحافظ على كيانه وحقه في العيش بسلام واطمئنان بعيدا عن كل المنغصات والمشوهات والظروف التي تؤثر في إنتاجيته ونشاطه وتضيع أرصدة نجاحه التي حققها ببقائه في المنزل والتزامه بالإجراءات وتقيده التام بالتدابير الصحية والاجتماعية الداعمة لمسار التعافي المجتمعي.
وعلى الرغم من أن فرضية بقاء كورونا (كوفيد19) تشكل تحديا كبيرا على العالم أن يعي تفاصيله ويدرك نواتجه ويفهم إلى أين يتجه به الأمر في حالة تفاقم الأزمة وخروج الوضع عن السيطرة والحدود التي يجب على المجتمعات والحكومات والدول أن تدركها في سبيل بقاء خيط الوداد ممتدا والثقة قائمة ومنهجيات العمل واضحة والأدوات محكمة وأرضيات النجاح صلبة، وآليات العمل تتناسب مع طبيعة التحدي وترفع من ممكنات القوة وتؤسس لفرص بناء منصات أكثر نضجا واستمرارية وتفاعلا للعمل المشترك الذي يساهم الجميع فيه بدور واضح ويصنع فيه المجتمع بكل أطيافه ملحمة الوفاء للوطن والتقدير للإنسان، إذ تبقى خيوط العمل ممتدة وخطوات الإنجاز قادرة على صناعة الفارق بما تتسم به من عمق واتساع في قراءة الحياة في ظل كورونا وهو الهاجس الذي لا يزال حاضرا في فكر وقناعة وواقع الإنسان، بما يصنع في المواطن والمقيم على حد سواء التزاما يمشي على الأرض ويبقي كل الاحتمالات وسيناريوهات العمل مفتوحة، والرهان على وعي المجتمع بكل أطيافه بلا استثناء سيكون عنوان المرحلة المقبلة في التعاطي مع كورونا، وهو ما يعني أن مسألة إبقاء تقدير الوضع حسب الأمزجة والاجتهادات والتفسيرات مرفوض لأبعد الحدود، لذلك فإن خطوات العمل يجب أن تكون مدركة من الجميع ومفهومة ومطبقة ومجربة، منعا من أي تداخلات في المسؤوليات، أو حصول انحرافات في المسار، أو شطحات تخرج الوضع عن السيطرة وتتسبب في زيادة فجوة التباعد وزيادة الانحسار في النواتج، وهي مدخلات تتطلب ترقية محوري الوعي والضبطية، التي اتجهت إليها السلطنة في قراءة البعد المستقبلي لجائحة كورونا، غير أن تحقق هذين الأمرين بحاجة إلى ممكنات داعمة وأطر واستراتيجيات أداء محددة، ومؤشرات قياس وتصحيح مقننة، وبناء منصات التوعية والتثقيف القادرة على تمكين فرص التأثير والاحتواء، ووجود منصات للرصد والتحليل والتشخيص والدراسة وقراءة البعد المستقبلي للسلوك الوطني العام من حيث إخفاقاته وتحدياته ونجاحاته ومراكز القوة فيه، وأدوات التصحيح والبدائل المعتمدة في تعديل السلوك الشخصي أو إعادة تصحيح مسار العمل المؤسسي، وزيادة مساحة المحاسبية والمساءلة، وترقية الفرص الإيجابية وتعزيز حضورها والاستفادة من أفضل النماذج الوطنية التي ساهمت في تأصيل هذا التناغم الحاصل في فرضية بقاء كورونا (كوفيد19).
ومع ما يطرح من سيناريوهات عمل قادمة وأجندة تتناغم مع طبيعة المرحلة المقبلة، إلا أنها يجب أن تأخذ في الحسبان أمرين الأول: مستوى التحول الحاصل في المزاج البشري والتغير في السلوك بحسب الظروف والأحوال التي يعيشها الفرد، وهنا يستدعي البحث عن تقوية الممكنات النفسية والمعرفية والفكرية والأدائية والقيمية المساهمة في بناء ذات الفرد المعززة لمبادئ الثقة وزيادة منصات البحث والتأمل والتفكير، وتحصين الفرد من الهواجس النفسية والأفكار السلبية التي يقرأ بها أحداث الواقع وينظر من خلالها إلى نواتج السلوك، وأما الأمر الآخر فيرتبط بطبيعة كورونا (كوفيد19) ذاته؛ فهو لكونه مرضا معديا، فإنه يحمل في ذاته هواجس مفزعة، ويثير بين السكان القلق والارتباك والخوف وعدم الاستقرار النفسي ومزيدا من الاضطراب الفكري، لذلك فإن تهيئة الفرد للتعايش مع المرض والتكيف مع أعراضه، يستدعي انتزاع حاجز القلق والخوف منه، ونقل الصورة الإيجابية الذهنية التي تعكس القيمة المضافة الناتجة عن الالتزام والتقيد بالإجراءات والتعليمات فهي أمان لمن عمل بها وسعى لتحقيقها في نفسه ومع أسرته وبين عائلته وفي مجتمعه، وفي المقابل يصنع في ذاته قوة الإرادة في مواجهة المرض وتحصين النفس منه وانتزاع حاجز الخوف والوساوس، وعدم التسليم للتخيلات السلبية والأفكار المحبطة التي يعيش الفرد خلالها سلوك التنمر مع نفسه وغيره، فيقوم بنقل المرض متعمدا رغم معرفته بإصابته به، أو يكسر الحاجز ويخالط أهله والمجتمع بالرغم من تعهده بالتقيد بإجراءات الحجز والعزل الصحي والتباعد الاجتماعي وغيرها، وبالتالي البحث عن كل الفرص والممكنات التي تصنع مزيدا من القوة في سلوك الفرد في مقاومة المرض والتعاطي الإيجابي مع أعراضه وسرعة التقيد بالإجراءات الوقائية العلاج الذاتي فور الشعور بالمرض أو أحد أعراضه، بما يؤكد الحاجة إلى بناء مسار عمل محدد يصنع الفارق في قدرة المجتمع بأفراده ومؤسساته على رسم خريطة التميز والنجاح في التكيف مع متطلبات هذه المرحلة والتجاوب مع كل ما تطرحه من سيناريوهات، متخذة من جملة البدائل المطروحة المعبرة عن واقع الممارسة ونواتج المتابعة والرصد والتقييم والتشخيص، ليجعل من سقف الالتزام باشتراطات الأمن والسلامة على المستوى الشخصي وبيئات العمل والمنشآت التجارية والصناعية والأماكن العامة التي أقرتها اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) نهجه الأمثل لتحقيق التوازن النفسي والثقافة الواعية والتصالح الذاتي والتعايش مع الظروف واكتساب المناعة الذاتية التي تضمن عدم تأثره بهذه الجائحة.
أخيرا فإن فرضية بقاء كورونا واستمرارية وجوده، تستدعي اليوم التفكير خارج الصندوق، والبحث عن منصات جديدة لتستمر الحياة جنبا إلى جنبا مع استمرارية كورونا وبقائه، ولتصنع الحكومات والشعوب من الإجراءات الاحترازية والتدابير المتخذة مساحة أمان لها في الحد من انتشار الفيروس والتقليل من حجم تأثيره في ظل عودة الحياة إلى طبيعتها واستمرارها في قوتها، لتتجه رؤية عملها نحو تبني مسارات جديدة وآليات متجددة وأساليب تتناغم مع طبيعة العهد الجديد في ظل كورونا، مع تقوية مشتركات العمل العالمية وتبادل الخبرات والتجارب وترقية مسارات التواصل بالشكل الذي يضع العالم أجمع أمام التسليم بوجوده والامتثال لقراراته والرضا بما يطرحه في الواقع من بدائل وحلول واستراتيجيات لاستمرار الحياة والعيش معا في ظلال كورونا، فلم يعد من المجدي النكوص خلف القضبان أو البقاء في دائرة مغلقة أو الانكماش على النفس أو إغلاق الحدود وتعليق رحلات الطيران أو فرض حظر التجول أو منع وتعليق كل الأنشطة التجارية والصناعية أو غيرها مما اتخذته الدول وعلى مدى الأشهر المنصرمة في سبيل الحد من انتشار فيروس كورونا، لذلك نعتقد بأن تهيئة المجتمعات وإدارة وضبط السياسات المتخذة بشأن التعامل مع كورونا وإعادة إنتاج الوعي الإنساني وترقية مسارات الضبطية وتعميق دور القانون وترسيخ الوازع الوقائي النابع من قناعات الأفراد وشعورهم بالمسؤولية وإدراكهم للمخاطر المترتبة على التهور والاندفاع في التعاطي مع الإجراءات والاحترازات الوقائية وعدم أخذها بمحمل الجد والحرص على استقراء نواتجها وتقييم مؤشرات التحقق، كل ذلك وغيره يصنع لكورونا مرحلة جديدة قد تختلف كثيرا عن المراحل السابقة في المساحة التي تعطي للمواطن والمقيم نفسه في إعادة هندسة سلوكه بما يتناسب مع طبيعة المرحلة ويتكيف مع الدور القادم الذي يؤكد على استمرارية مسيرة الحياة مستمرة في ظل وجود كورونا، مع المحافظة على حركتها وحيويتها وإنتاجيتها واستمرارية نهوضها ولكن بأنماط أخرى وأساليب جديدة أكثر رقيا ووعيا وابتكارية وتناغما مع الفطرة وانسجاما مع أخلاقيات الإنسان، بما يؤكد على أهمية البحث عن بدائل وخيارات أخرى تبقي مسارات العمل والإنجاز ونوافذ الأمل والعطاء قائمة لا تتوقف، إذ كورونا ليس نهاية المطاف، وليس هو الجائحة الوحيدة التي سيشهدها العالم.
د. رجب بن علي العويسي