بدايةً وبسبب عدم وجود لغة وطنية مسيطرة، تشكل اللغات الأربعة الأساسية وهي الفرنسية، والإيطالية، والألمانية، والرومانشية الفروع الأربعة التي تُكوِّن الأدب السويسري وشكّلته في روائعه الخالدة على قلتها والتي حظيت بالاستمرارية وحجزت له مقعداً دائماً في الأدب العالمي.
استفادت سويسرا من موقعها كدولة محايدة، وجمعت عقولاً كبيرة معاً، مما سمح لهم بالتفكير والتعاون والعمل على بعض من أفضل الأدبيات التي عرفتها أوروبا على الإطلاق. لن تجد نقصاً في الروايات أو التواريخ أو المقالات التي ستسمح لك بممارسة لغتك الفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية أو حتى الرومانش، إن كانت الأعمال كلاسيكية أو معاصرة، فرغم تعدد اللغات لكن الأدب السويسري أدباً مميزاً لأن المؤلفين في مختلف المجالات الثقافية يعملون في لغاتهم الخاصة، ففي عصر الحربين العالميتين، كانت هناك بعض المحاولات لترسيخ فكرة “الأدب القومي”، لكن في النهاية، للغة تأثير أكبر على الأدب من الحدود الوطنية، وبالتالي، فإن الأدب في سويسرا الناطقة بالألمانية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأدب العالم الناطق بالألمانية بأكمله، وينطبق الشيء نفسه على أدب سويسرا باللغتين الفرنسية الإيطالية، وعلى الرغم من أن سويسرا تنشر اليوم آلاف الكتب كل عام، إلا أن العديد من النجاحات الأدبية للبلاد ترجع إلى القرون السابقة مع شخصيات مثل، جان جاك روسو، فيلسوف التنوير الفرنسي السويسري المولِد، من بين الكتّاب الألمان السويسريين المعاصرين إريكا بوركهارت، هيلين ماير، توماس هيرليمان، بيتر ستام، والشخصية الرائدة في الأدب الفرنسي السويسري الحديث هو تشارلز فرديناند راموز، كذلك الكتّاب الآخرون بالفرنسية هم غاي دي بورتاليس، بليز سيندرارس، دينيس دي روجمونت، آن بيرييه، وإيف لابلاس، ويتمتع الكتّاب الإيطاليون السويسريون بصلات وثيقة مع إيطاليا المجاورة، ومن بينهم فرانشيسكو تشيزا، الذي يصوّر عمله الحياة الريفية في تيسينو، والشعراء جورجيو أوريلي وألبرتو نيسي، والروائيين آنا فيلدر وفلور جايغي، حيث كانت سويسرا من بين المراكز الرائدة للإصلاح البروتستانتي خلال القرن السادس عشر، وكانت موطناً لعلماء لاهوت المؤثرين مثل هولدريتش زوينجلي، ويوهانس ستومبف، وجون كالفين المولود في فرنسا، كذلك كان كارل بارث من أهم اللاهوتيين في القرن العشرين.
من منّا لا يتذكر هايدي التي عاشت في الريف السويسري الجميل، والتي أصبح منزلها اليوم مقصداً لكل السياح حول العالم، والجبال السويسرية والطبيعة الجميلة وجبال الألب، هذا المسلسل الكرتوني الرائع، وهو من أشهر الأعمال السويسرية على الإطلاق على الأقل برأيّ، للكاتبة السويسرية التي جوانا سبيري واسمها الأصلي يوهانا لويزه هويْسر من أشهر كاتبات قصص الأطفال في القرن التاسع عشر، وهي مبتكرة شخصية هايدي، التي كتبت كتاب هايدي للأطفال عام 1881 وهي قصة تحكي الحياة اليومية لفتاة وجدها. إنها واحدة من أشهر قصص الأطفال حول العالم و واحد من أكثر الكتب مبيعاً على الإطلاق، ومن أشهر أعمال الأدب السويسري، وقد ترجمت من الألمانية إلى ٥٠ لغة أخرى، وتحكي الرواية عن حياة فتاة صغيرة اسمها هايدي، كانت تعيش مع جدها في جبال الألب السويسرية في كوخ بعيد عن القرية. احتضنها الجد بالرعاية فعاشت في ظله أحلى سنين عمرها، ثم شاء القدر أن ترسل إلى فرانكفورت لتعيش مع أسرة ثرية كرفيقة لابنتهم كلارا البالغة من العمر اثني عشر عاماً، وأما جان جاك روسو، اشتهر بعمله خلال عصر التنوير في جنيف. كانت كتاباته عن السياسة والاقتصاد والتعليم، أيضاً، توماس مان، الفائز بجائزة نوبل في الأدب الألماني عام 1929 عن روايته “الجبل السحري” في دافوس بسويسرا. يعتبر كتابه من أكثر أعمال الأدب الألماني تأثيراً.
من هنا وكما ذكرنا، يرتبط الأدب السويسري باللغات الأربع الموجودة على أرضه، بالتالي يتبع التعبير الأدبي هذه اللغات، منذ نشوء سويسرا، وأدى هذا التوزع والتنوع اللغوي إلى عدم ولادة أدب قومي واحد، يعبر عن الوطن السويسري، بل إلى آداب تتصف غالباً بالمحلية الضيقة، ونادراً ما يتخطى أدباؤها هذه الحدود نحو العالمية. ومن منظور تاريخ الأدب كانت آداب سويسرا تُحسب دائماً على آداب البلدان المجاورة (فرنسا، ألمانيا، النمسا، إيطاليا) فتُدرس وتُقوَّم في سياقاتها. ولما كانت نسبة الناطقين بالألمانية تعادل 65% فقد احتل أدب اللغة الألمانية في سويسرا المساحة الأكبر والأكثر أهمية. وقد بدأ النشاط الأدبي المؤثر في هذه اللغة منذ مطلع عصر النهضة بترجمة قساوسة ديرسانت كالن، مجموعة من الكتب اللاهوتية من اللاتينية إلى الألمانية، كما أسهم عدة شعراء من زوريخ في حركة شعر المينزينكر، أما روح حركة الإصلاح الديني النضالية فقد انعكست في مسرحيات نيكلاوس مانويل أواخر القرن السادس عشر، وفي عصر التنوير حين أدت أعمال بستالوتسي إلى تعميق الاهتمام بالواقع والجماعة ازدهر مع روسو وأ. فون هالر، شعور جديد بالطبيعة تجلى، من ثم، في أعمال أ. كسنر، من جهة ثانية حول دور المسرح في بلورة الهوية القومية، كما امتد تأثيرهما إلى تطوير تقاليد النقد الأدبي والمسرحي التي تواصل ازدهارها حتى نهاية القرن العشرين، في أعمال فون شتتن حوالي العام 1800.
إن السمة البارزة للأدب السويسري الناطق بالفرنسية منذ القديم هي التوتر القائم بين المحلية والعالمية. وفي بداياته كان هذا الأدب متأثراً بعمق بالحركة الكالفينية وكالفين. وفي القرن الثامن عشر حتى بدايات القرن التاسع عشر حقق هذا الأدب مكانة أوربية بأعمال روسو ومدام دي ستال وكونستان ده ربك، إذ امتلأت أعمالهم بإحساس جديد بالطبيعة وبروح ليبرالية اخترقت إطار المحلية الضيقة إلى رحاب العالمية. وتتسم أعمال ب. دي مورالت، وك. فون بون شتتن، وف. س. بريدل، بموضوعات ذات طابع سياسي – ثقافي، وفي القرن التاسع عشر ظهرت كتابات تحليلية نقدية لدى الكثير من الكتّاب، أما القرن العشرون فقد شهد تحولاً على صعيد الوعي اللغوي والفني، وتطورت القصة والأدب.
كان العام 1945 منعطفاً حاداً في الساحة الأدبية والفنية حتى في سويسرا المحايدة. وفي مرحلة ما بعد الحرب امتداداً إلى السبعينيات انشغلت هذه الساحة بالقضايا التي طرحتها الأعمال المسرحية والروائية لماكس فريش وفريدريش دورنمات اللذين ترجمت أعمالهما إلى لغات عدة، منها العربية. وقد عالجا في أعمالهما مسألة مسؤولية الفرد تجاه السلطة والمجتمع، والموقف من تطور العلوم المتسارع والخطير، والإشكاليات المتولدة عن الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي وانعكاساتهما على الفرد، فكانا من أقطاب الأدب الملتزم سياسياً في تلك الحقبة، فأثرا في الجيل الشاب من الروائيين والقصاصين السويسريين.
ولا يمكن الحديث عن أدب سويسري ناطق بالإيطالية إلاّ منذ عام 1803 حين أُعلنت تسين جمهورية ذات سيادة وكانتوناً في الإتحاد السويسري. وفي القرن التاسع عشر غلبت في الساحة الثقافية الدراسات السياسية والتاريخية. واشتهر آنذاك الباحث الأدبي ج. أ. سكاراتِسيني الذي حقق تراث دانتي إلى جانب سالفيوني الذي وضع قاموس المفردات الإيطالية السويسرية. وفي القرن العشرين حقق الشاعر والقاص ف. كييزا شهرة تعدت حدود أوروبا. وبصفته مدافعاً عن إيطالية تِسين فقد ترك أثراً جلياً في الدراسات التي كتبها، أما فيما يتعلق بأدب لغة الرومانش الموزعة سياسياً بين شمالي إيطاليا وجنوبي شرقي سويسرا والمشتتة بين لهجات متعددة، لم تنشأ كتابة موحدة تجمع شتات النتاج الأدبي والفكري، بل ظهرت أشكال متباينة من صيغ الكتابة لكل لهجة.
من هنا، على الرغم من شهرة الأدب السويسري في بعض الأعمال، إلا أن الانتشار ليس بالقدر المطلوب، إذ أن السويسريون حتى هذه اللحظة يعانون مشكلة قومية اللغة التي تتنازعها لغات ولهجات عدة، ليكون الأدب السويسري أدباً بلا هوية حقيقية الأمر الذي كان سبباً في عدم انتشار الأدب السويسري على نطاق عالمي، إلا أعمال قليلة لكتّاب خرجوا عن نطاق الحدود الضيقة.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.