الشيخ محمد بن مدّاد بن محمد بن مدّاد، علَم من بيتِ آل مدّاد الناعبي العريق، من علماء النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، ويجزم الشيخ المؤرخ سيف بن حمود البطاشي انه توفي بعد سنة ٨٧٤ هجرية، ويصفه بأنه “فقيه، وشاعرٌ بليغ، لغويٌ ذو اقتدار، فطُورًا يجزل، وطورًا يرقُّ، ويأتي بالغريب أحياناً، وبالسهل أحيانا أخرى” جعل من شعره رئة له يكتم بوحًا شجوه ورؤاه فيه مصرحًا ذلك بقوله:
وهمٍّ جعلتُ الشِعر بين خناقه
وقد غوّرتْ أمُّ النحوم الثواقب
ومع دأب العمانيين على رفع فقهائهم ذي الشعر البليغ لمرتبة الفرادة، فاصطفوا ثلاثةً لمنزلة (أعلم الشعراء، وأشعر العلماء ) فإني أرى أن هذه المرتبة يجب أن تتسع لشعراء آخرين ليسوا أقلّ من ابن النظر وسعيد بن خلفان الخليلي وابي مسلم البهلاني، ويكون العلامة محمد بن مدّاد بن محمد بن مدّاد بن فضالة الناعبي منهم، فهو الفقيه الغيور على حرمات الله، وهو المؤرخ الأديب، كما أنه كان رجلا محوريًا مشاركًا في غمار أحداثِ عصْره، وتصفُّح ديوان شعره ( الإعجاز والأشهاد في أشعار ابن مدّاد ) الذي حققه الشيخ مهنا بن خلفان بن عثمان الخروصي يكشف كثيرا من ملامحه ذاته الكريمة التي اكتنقها شعرُه، ناهيكم عن مطالعة كتب الفقه لمن أراد التوسع في اكتشاف آرائه الفقهية والفكرية، فيبدو أنه كان لا يركن لأقوال من سبقه من العلماء، بل يحقق المسائل ويصدر فيها برأي.
شاعرنا الكبير محمد بن مداد الناعبي رسم لنفسه بورتريها بملامح شاعرٍ قديرٍ على ما شاء من الشِعر، فهو يقولُ:
وإني زعيمٌ أنْ أقولَ قصيدةً * يسيرُ بها الغضُّ الغرانقُ أشهرا
خفيفًا على ظهر المطايا مسيرُها * إذا الناشدُ الغرّيدُ فيها تجهورا
لسانٌ كحدّ المشرفيّ يحوطُهُ * جَنانٌ كنجْم الرجْم لاح فنوّرا
إذا هزّه في منطقٍ هزّ صارمًا * حسامًا جلتْ عنه الصياقلُ مِبْترا
وأهدى سبيلا للقوافي إذا غدَتْ * تطالعُ مُلْكا، أو تطلّع منبرا
وأرمى إذا جدّ النضال لشاعرٍ * إذا لم يُطقْ مسّ الصواعق أدبرا
واستدلالا على ذلك نجده في قصيدةٍ له بائية يعتدّ بنفسهِ شاعرًا بألفاظٍ صريحةِ الاعتداد، ويذهب لأبعد من ذلك بأنْ يصرّح أنه قادر على تطويع كل بحور الشِعر:
وإنّي متى ما أدع للشِعر يأتني * كدفّاعِ بحرٍ مظلمٍ ذي غواربِ
ولي في السريعِ جرْيُ أقرحَ سابحٍ * ولي في المديد مدُّ خطوٍ مناهبِ
ولي في اقتضابي قطْعُ عضبٍ مهنّدٍ * ولي في الطويلِ طول عِيْرٍ مواكبِ
واعتداد الشُعراء بقدرتهم النظمية على كل البحور عادةٌ جرْت، وأشهرُ من تعاطاها صفي الدين الحلّي الذي نظم على كل البحور والقوافي، وهو ما يشيرُ له ابن مدّاد هنا، والذي يزيدُ في الاعتداد بالخروج من المناطق الظاهرية في الشِعر ، إلى الغزل الذي يكسر التابوهات والمحرَّماتِ ذِكْرا على المتعمِم بالفقه المتجلبب بِسَمْتِهِ، فيقول وهو يرسم الشاعر صورة جسدية لمعشوقته البهلوية، من قرية (سيفم) إحدى قُرى بهلا:
وما ظبية ٌمن ظباء السريـ
ـر، ترود وترعى به الأخزما
ووجهٌ يشابه بدر السما
وكشحٍ لطيف بها أهضما
يزين ترائبها عقدُها
وثديانِ لم يعْدُ أنْ أحجما
وتخطو بِبُردِيّْتَيْ حابرٍ
سقتْه المدافِعُ من ” سيفما”
وصدرٍ رحيبٍ، وكفّ خضيبٍ
تحاكي قنوّتُه العندما
وتبسم عن برَدٍ ناصعٍ
تزين ملاغمه المبسما
و ردفٍ عميمٍ كدعص النقا
سقاه الحيا الجونُ أذ ديّما
وفي تذكاره لحبيبته المنحية، يركّز بؤرة عدسته الشِعرية على مواضع الفتنة القوية في النساء، وكأنه خلع سمت الفقه متخففا بالتزلف للمحبوب، يقولُ:
يا دار هندٍ قد عفتْ مِنْ زمنِ * بِمَعْمَدٍ عصرًا كأنْ لم تُسْكَنِ
موطنُ آبائي وأيُّ موطنِ * محلّ أرباب الخيولِ الصُفّنِ
دار لهندٍ ولأمّ الحسنِ * ولابنة الغمر وأم أعينِ
تسطو برحب البيت رحبٍ فطِنِ * تسبي حليم القلبِ بالتليُّنِ
والصدر قد زينَ بنهدٍ مُكْمِنِ * مثل حقاق التاجر المثمنِ
والبطنُ مطويٌّ بحسن العكنِ * طي القساميّ برود اليمنِ
كأنما فاها بعيد الوسنِ * والريح لم يخلف ولمّا يأسنِ
وصورة العاشق الإيروتيكي هذه شيطانية عند الفقهاء، وإن كانت تقليدية باهتةً في ميزان الشعر، ومألوفة منذ المعلقات والشعراء العذريين وشعراء الدولتين الأموية والعباسية وغيرها، وهناك من شعراء عمان الذين استخدموا الفرشاة والألوان نفسها في رسم معشوقاتهم ومغامراتهم الخيالية، لكن العلّامة ابن مداد فقيه ضاربٌ في الفقه، وهو ابن العلامة محمد بن مداد بن فضالة، وسيكون منه ومن أخيه ذريةٌ فقهية لها مفصلٌ ومقصلٌ في الشأنين الفقهي والسياسي العماني.
يتحول ابن مداد في رسم البورتريه من العاشق الملتاع بالوجد المتعلق إلى وعلى الجسد، إلى الشاعر النرجسي المزهو بشِعره، بل كان الشعر هو رسولُه لمعشوقته، حتى أنّ الأفكار ستسوق لك أنكَ أمام عاشقِ بمذهب عمر بن أبي ربيعة في رُوح حين يقول:
و رُب قواف كمثل السهام
جعلتُ لها حبكم سلّما
ويعتدّ لها كعادة العربي بنسبه، ممتدا بالفخر الصارخ أمام الشعراء يتحداهم بشِعره ونسبه في خطين متوازيين:
ومن مبلغ شعراء الأنام
من كان أعرق أو أشأما
بأني انا الشاعر الناعبيّ
فحطّوا لي البازل المرجِما
و رُدّوا القريض إلى ربّه
فإنّ القريض قد استعصما
سموتُ إليه فذلّلتُه
فَلانَ فذلّلْتُه مقرما
قوافيّ إنْ انا جلّيتُها
غدتْ تطردُ الروم والديلما
وإنْ شئتُ أعوصتُ حتى يقا
لَ، جاء بها أيّدا أعرما
وإنْ شئتُ أسهلتُه طائعاً
سريحًا يصوّب أو دَوّما
هذه الخطابيات الفخرية هي ذروةٌ عالية للاعتداد بالشعر، لا يجب انْ نقرأها أنها كلاسيكية معتادة من الشعراء ولها مثيلاتها الكثار، نعم يكون ذلك صائبا بالنظر من زاوية واحدة فقط، لكن بالارتفاع ومحاولة التوقع الزماني والبيئي للعلامة ابن مداد فقد تجلبُ لنا شاشةُ الأثير تأويلا لهذا الاعتداد، كونه ردّاً حادّاً لمن يحاول جلببة الفقيه في حدود الفكر الواحد في التعاطي مع النص الشعري، بل يحلّقُ ابنُ مدّاد في فضاء آخر بعد فضاء الغزل الإيروتكي والاعتداد والرد بالشعر إلى فضاء الغيرة على الشِعر كما يُغار على الحدود الأخرى، وبإظهاره الغيرة على الشِعر من قوم يرون الإبداع فيه محرّماً:
أغارُ على الشِعر من معشر
يرون بدائعه مجرما
وأغضبُ من معشرٍ لا يرون
قيمته عندهم درهما
وأصبح ما بينهم ضائعا
كما ضاع رسمٌ قفا ملهما
وللشِعر عندي محلٌّ كريمٌ
أُجّنبه الهجر والمأثما
وهنا بؤرة ضوء ساطعة نستطيع منها سماع الدفوع من الشاعر ابن مدّاد، جوهرها الغيرة على الشعر ممن لا يرون فيه إبداعا ولا قيمة، ولربما أخذوا ذلك من تأويلٍ ما لقوله تعالى في سورة الشعراء {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} فحصروه فيما اعتقدوه مفيدا، أي الشعر التعليمي، أو بالفرار عن كل ما يظنونه يلوث عمامة الفقيه حتى وإن كان غزل الفقهاء، ومع ذلك فابن مدّاد يجنّب الشِعر الهجر والمأثم، و (الهجر والمأثم) هما الكلمتان المفتاح في هذه الدُفوع، فهو يجعل الشعر في موضع الكرامة ولا هجران له، ولا يأثم به بجعْله شرَكا او تعتعة نبيذ، كما أنه يُعلي شِعره عن جلسات السمَر مع كل (هلباجةٍ) فلن يطرح دررَهُ على الأَحمق الضَّخم الفَدْم الأَكُول، أيًّا كان طبقته في الناس، من رؤوسهم أو سُوقتهم، ولن يتملق به كما فعل الأعشى مع كسرى الذي أُفهِم الشِعر بمترجِم، ويحاول أنْ لا يردّ به على من أساء إليه فهو العفيف اللسان والنفْس، ولو ردّ فإنه سيرُدّ على من يسيء إليه بما فيه، وهذا في الأصل ينطق من قول فقيه.
وللشِعر عندي محلٌ كريمٌ
أُجنّبه الهجر والمأثما
وأُعليه عن كل هلباجةٍ
يراني أُكلفه مغرما
ولستُ كأعشى وإنشاده
لكسرى، وما حق أنْ يفهما
وكان عناءً له قصده
وهل يفهم المفصحُ الأعجما
وما كان صاحبكم همّه
بشيءٍ، فرغماً له مرغما
ومَن بايع الدُّرَ من سوقةٍ
كمن حاول الدُّرَ من أزنما
ولستُ إذا سبّني ساقطٌ
بمُعطٍ له سُؤلَه إنما
أُجازي المسيء بحُسْن الفعالِ
ولو شئتُ جرّعته علقما
وإنْ أهجو قوماً بأفعالهم
أقُل صادقا فيهم مؤلِما
وإنْ أعفُ أعفُ على قُدرةٍ
أرى الكفَ عن مثلهم أكرما
وحينا أكونُ مع الجانبينِ
ذعافاً وأحمي لهم ميسما
وأسطو بمن سامني خطةً
كؤودا، وجشمني معظما
بدهياء من ناحضات القريض
تغادر أنفًا له أكشما
هذه الغيرة يُؤكدها ابن مدّاد في نص آخر له بقوله :
وشِعرٍ كزِرْق الزاعبيّ هززْتُه
غريبٍ، أتى من محكماتٍ غرائبِ
تناشدها الراوون من بين قاربٍ
وقارٍ وسارٍ في الفلاةِ وساربِ
تخالُ إذا ما أُنشدتْ في محافلٍ
كواكبَ افقٍ أو طرازَ مذاهبِ
أُكتّمها الشادينَ خوف انتحالِها
وقد تُكتم الأشياء خوف التكاذبِ
وإني بحمد الله ربي لِمِثْلِها
قؤولٌ إذا ما أُنشِدتْ في الأعاربِ
يا الله، يغار على شِعره، فهو حين ينشده على الحلقة الأولى من خاصته، يجعل كتمانها أمانة كي لا يسرقها أحد من أفواههم، مع أنه يمضي في اعتداده هذا بإعتداد آخر حين قال
وإني بحمد الله ربي لِمِثْلِها
قؤولٌ إذا ما أُنشِدتْ في الأعاربِ
فكأنه يريد أن يقول ولو سرق اللص شِعري فإني قادر على مثلها، واللص عاجز ومفضوحٌ ببصمتي الشِعرية، كما أنه شاعرٌ يعرفُ موضع شِعره، وصِفتَهُ شهدًا أو سوطَ عذاب، هو صائغُهُ وناقدُ غيرِهِ الذي يصفُ شِعره بأوهى من مُسوكِ الأرانبِ، وهو التشبيه الذي أخذه من ذي الرمّة (تراهنّ خلف القومِ خرزًا عيونها * جلوس الشيوخِ في مسوكِ الأرانبِ) ، وغامزًا قناةَ غيرهِ من الشعراء ، الذين قولهم مُنْتحلٌ به عوار “لم يخلُ من قولِ قائل” وشعره “مثل نسج العناكبِ” وأنه “حاطبُ ليل” فيقول ابن مدّاد في النسق الفخريّ بشِعره:
على أنه كالأريِ مِنْ نخلِ عاذبٍ * وسوطِ عذابٍ ، ساقه اللهُ ، واصبِ
لكلّ أخي نكراء يحسبُ أنه * مُصيبٌ ، وهل في الشمسِ عيبٌ لعائبِ
ودونك مَنْ يرويكَ شِعر مُزرّدٍ * وفي الشِعر أوهى مِنْ مُسوكِ الأرانبِ
على أنه لَمْ يخلُ مِنْ قولِ قائلٍ * مُداجٍ تنزّى بِطْنَةً أو مُحاربِ
دعانيَ ممن لا يرومُ، فيدّعي * إلىّ مقالا مثل نسْجِ العناكبِ
وهل هو إلّا مثل حاطبِ ليلةٍ * توالتْ بها الظلماءُ مِنْ كل جانبِ
قرا ما قرا في حبْلِهِ وهو غافلٌ * وفي حبلهِ الدهياءُ أم العجائبِ
هذا الاعتداد بكينونته شاعرًا، وغمز قناة الآخر من الشعراء، تشي بنرجسيةٍ مألوفةٍ عند فئة الشعراء،
هذا العنفوان العظيم، في هذا السبك الفخم، الذي أبان عن ملامح حادة، قد نظنه لشاعر ركزتْ قدماه في الدهر، ورسخ شأوه، وحشد أنصارا وقبيلةً ومريدين، باختصار ظننتُه عنفوان رجُلٍ ناهز متتصف الأربعين، ولا اعلم لماذا تبادر هكذا لذهني، ربما لافتراضي أنه مفتتح باب منتصف العمر، فيكون في جدل مع قوم أسنّ منه رأوه فقيها ميالا للغزل فنافحهم وكافحهم، وربما قد رآهم شبابا ذات أيام، هكذا تهيّا لي مسرح هذه المرافعة في نص ابن مدّاد الجزل هذا، ولكنكم قد تدهشون مثلي حين يقول لنا ابنُ مدّاد:
لئنْ مرّ من عمري سبعة
وعشرون جئتُ بها معلما
فقد جرّب الدهر مني صفاةً
أبتْ انْ تلين وأنْ تكْلما
ومع سياحتي متلذذا بشِعر هذا الشاعر العماني العظيم دخلتُ مواقع الجامعات والكليات العمانية في شبكة المعلومات العالمية “الانترنت” ، وكنتُ أمنّي النفْس أنْ أجد رسالةً أكاديمية في شِعره، أو بحثًا على أقلِ تقدير، لكنّ ظني خاب أنْ لا يخيبَ ظني، فلم أجد شيئًا يدرسُ شِعره، مع أنّ شَعرهُ ثريٌ جدا بما يمكن أنْ تحبّر به الدراسات، كالدراسات الأسلوبية، أو تتبع ثقافة الشاعر الأدبية، أو اللوحاتِ الطبيعية في شِعره، ولكنّ الأمل يظلّ معقودًا دائمًا في تتبع الشِعر العماني العريق بالدراسات والبحوث الأكاديمية وتقديمها للمتلقي العماني والعربي.
* يونس بن مرهون البوسعيدي