أعلم أن كثير من المؤدلجين العرب لن يرق لهم هذا المقال، وللأنصاف لا يمكن أن استعرض تأريخ جديد غير ما ذكره الباحثون والمؤرخون الأوائل وأساتذة التاريخ وسأقدم بعض النصوص مما ذكره أولئك المؤرخين والباحثين، وبإمكان القارئ والمتابع أن يعود لبدايات دخول العثمانيين الى الوطن العربي عام ١٥١٥م /١٥١٦م /١٥١٧م بعد دخول سوريا ومصر وما ذكره التاريخ بعد معارك جالديران ومرج دابق والريدانية ضد المماليك في الشام ومصر، وكان سلطان المماليك قنصوه الغوري قد أرسل رسالة للسلطان العثماني سليم الاول لمحاولة ثناؤه عن الحرب بين المسلمين ولكن رد السلطان سليم الاول جاء متعللا بأسباب ليس لها أي أساس ويعلن فيها الحرب بهدف التمدد واحتلال الشرق الذي كان هدفهم الأكبر، ويذكر المؤرخ محمد بن إياس الذي توفى عام ١٥٢٣م في “بدائع الزهور في وقائع العصور” وقد عاصر دخول سليم الأول لسوريا ومصر فذكر المآسي التي حدثت إبان دخول العثمانيين للشام ومصر من قتل وسبي واسترقاق وارتكاب الجرائم، بل أنهم دمروا البنية الاقتصادية لمصر والشام ونقل أصحاب الصناعة والحرفيين الى اسطنبول، كما ذكر ابن طولون كيف تمت استباحة الشام بمختلف مدنها وسقوط عشرات الالاف من الضحايا واقتياد كثير منهم عبيدا الى أسطنبول وهو ما حدث في مصر بل ربما كانت أشد باعتبار ان مصر مركزا للمماليك فعمل الجيش العثماني على النهب والسرقة والقتل وضربت أعناق الكثيرين ممن ألقي القبض عليهم .
هذه كانت البداية لتاريخ العثمانيين في الوطن العربي، ويرى الدكتور عصام الدسوقي استاذ التاريخ في جامعة حلوان ” أن العثمانيين ليسوا سوى غزاة ومستعمرين احتلوا بلاد العرب أربعة قرون مثلهم مثل الاستعمار الفرنسي والبريطاني واستنزفوا ثروات العرب وأورثوهم الضعف والتخلف ” ويرفض الدسوقي “الرأي الذي يصف العثمانيين بالفاتحين فكيف يمكن وصف دخول شعب مسلم لأرض شعب مسلم بالفتح؟! فذلك مناف للعلم والتاريخ” ويرى الدسوقي “أن السلطان العثماني كان امبراطوريا استعماريا وأن البلاد العربية عانت التبعية لمركز استعماري ولم تشهد أي معالم نهضة أو حضارة وهذا لا يأتي إلا مع الاستقرار وهو ما حرم العثمانيون منه العرب” هذا ما ذكره د. عصام الدسوقي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة حلوان بالتفصيل، كما أكد ذلك أيضا الدكتور محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب في جامعة القاهرة وذكر رأيا قريبا مما ذكره الدسوقي ولكنه أضاف ايضا أن الصورة القاتمة التي رسمها بعض المؤرخين للحقبة العثمانية خاطئة، فالدولة العثمانية تميزت بالتسامح الديني، ويؤكد على خطورة اطلاق الاحكام الجامدة على الحقبة العثمانية سواء “أبيض أو اسود” ويشير الى النهاية الدرامية للدولة العثمانية التي كانت سببا في تسهيل الاستعمار الأجنبي للبلاد العربية، كذلك ذكر الدكتور أشرف مؤنس أستاذ ورئيس قسم التاريخ بكلية التربية في جامعة عين شمس مساوئ حكم العثمانيين وأن كثيرا من آثار حكمهم بقي في المنطقة العربية منها عدم توافر مقومات الدولة وعدم فهم الحكام العثمانيين لمهام الحكم، فقد اهتموا بالمدن الساحلية فقط وطرق التجارة وتركوا باقي المدن دون تطوير أو رعاية وعينوا رؤوساء القبائل لادارة شؤون المناطق دون نظان اداري واضح فتخلفت بلادنا كثيرا ولم يعرف المواطنون خدمات مثل الصحة والتعليم، ويذكر د. أشرف مؤنس أن العثمانيين اهتموا بجباية الضرائب حتى أن المرور بالطرق والشوارع فرضوا عليه ضريبة كانت تسمى “الحلوان” وفرضوا ضرائب أخرى لا تحصى أفقرت شعوب المنطقة ومنها ضريبة “الميري” وتحصل بنسبة ٢٢% لحساب السلطان وضريبة “الكشوفية” ١٦% فقبعت المنطقة في فقر مدقع وتزايد الجهل والمرض ونقص الخدمات وشح الموارد، ويسلط الضوء أيضا الى الطبقية التي كرسها نظام الحكم العثماني، وأشد ما أثر على الوطن العربي هو حالة العزلة التي فرضها العثمانيين على العرب ومنع التواصل مع اوروبا التي كانت تشهد نهضة صناعية متصاعدة فلم ينفتح العرب على الثقافات الاخرى طيلة (٤) قرون ولم يصل اليهم أحدث ما وصل اليه الآخرون من تطور ورقي ونهضة فعاشت البلاد العربية في عزلة ورجعية وتخلف وعانت منه لقرون، وأشار الى نقل العثمانيين للعمال وصناعها المهرة وتفننوا في جمع للضرائب التي استثمرت في تجهيز الجيوش فوجهوا موارد الدول العربية لتسليح الجيش مضيف أنه لا يكاد يمر عام دون ان يخوض العثمانيون حربا في مناطق العالم وتكون كلفتها على حساب العرب من موارد مالية وبشرية، حيث أرسل المجندون العرب الى أماكن بعيدة خارج اداراتهم المحلية ولم يسمح لهم بالعمل قريبا من بلادهم وبقيت البلاد العربية دون رجالها ليسيطر عليها الانكشارية بل سيطروا على أغلب الولاة حكام الولايات العربية الذين لا يستمر حكمهم الا لفترات قصيرة خشية انقلابهم على الباب العالي .
وفي الجزيرة العربية سيطر العثمانيين على الحجاز بغية اضفاء الصبغة الدينية على الدولة العثمانية، وكذلك هو الحال في بغداد التي أضفت عليهم طابع ما يسمى الخلافة، ولم يختلف واقع الحال في المغرب العربي عما هو في الشام ومصر كما يرى عدد من الباحثين، بل أن الموقف كان أشد إيلاما حيث تم الاستنجاد بالعثمانيين في الجزائر لمواجهة غزوات الأسبان في منتصف القرن السادس عشر، وهو ما يذكره الباحث محمد بن مبارك الميلي في كتابه تاريخ الجزائر القديم والحديث “أستجاب العثمانيين للطلب الجزائري ونجحوا في طرد الاسبان لكنهم لم يغادروا البلاد بل بقوا فيها حتى تم احتلال الجزائر عام ١٨٣٠م” ويضيف “كانت بداية العهد العثماني في الجزائر كارثية ملطخة بالدماء فعندما استنجد سلطان الجزائر سليم التومي بالعثمانيين أرسلوا له القائدين البحريين المشهورين الأخوين خير الدين وعروج بربروس لطرد الاسبان” وهنا قد لا يتسع المقام لما ذكره الميلي في كتابة وسنكتفي بجزء مما ذكره أن ” السلطان سليم التومي والجزائريين استقبلوا عروج استقبال الفاتحين، ثم بدأ يتضجر السكان من تصرفات الاتراك الذين كانوا يعاملون الجزائريين معاملة فظة وبدأت تظهر بوادر التمرد إلا أن عروج ذهب بنفسه الى منزل السلطان سليم التومي وقتله بيده في الحمام عندما كان يتأهب لصلاة الظهر فخرج على جنده معلنا نفسه سلطانا على الجزائر” وهو ما ذكره عدد من المؤرخين، ولم يختلف الحال في تلمسان التي نصب فيها أبو زيان حاكما عليها الا أن عروج قتله وفرض ضرائب ضخمة على أهل المدينة، وسيطر العثمانيون على تونس عام ١٥٣٣م ومنها الى شواطئ طرابلس الغرب التي احتلت عام ١٥٥٠م التي حاصرها الاميرال العثماني سنان باشا ودرغوث باي وأعلن فيما بعد سنان باشا واليا على طرابلس، وكذلك الحال في بقية المدن الليبية، والتاريخ يعيد نفسه اليوم في ليبيا ولكن اليوم يختلف الحال حيث لا توجد امبراطورية عثمانية، واستكمالا لما يذكره المؤرخين عن تلك الحقبة أن السلطات العثمانية ارتكبت أبشع المجازر غدرا في (٥) سبتمبر من عام ١٨١٧م والذي صادف أحد أيام شهر رمضان، فدبر العثمانيون مذبحه بحق قبيلة الجوازي بينما كانوا صائمين على خلفية نزاع بين الوالي يوسف باشا وولده محمد الذي ألتجأ بقبيلة الجوازي وهي أكبر قبائل برقة فتم الاجتماع من قبل الوالي باشا في قلعة بنغازي وأظهر لهم الترحاب ثم دخل الحراس شاهرين سيوفهم لينفذوا أوامر الوالي بذبح جميع مشايخ القبيلة، وأجهزوا على عدد كبير منهم وأخذوا البقية التي حاولت الدفاع الى غرفة قريبة أعدت خصيصا لاعدامهم، وبعد المجزرة بيوم واحد قتلوا من جاء اليهم متوسطا بالصفح عن بقية أفراد القبيلة وألقيت جثثهم في مياه البحر، وهرب من تبقى منهم على قيد الحياة الى مصر والتاريخ يؤكد ذلك، هذه كانت مشاهد من تاريخ العثمانيين في الوطن العربي بدءا من سوريا مرورا بمصر وانتهاء” بالمغرب العربي طوال القرون التي سيطر فيها آل عثمان على الوطن العربي، ويصف احمد البرعصي استاذ التاريخ الليبي القرون التي سيطرت فيها الدولة العثمانية على شمال افريقيا بالعصور السادية ويقول ” كان العثمانيون أساتذة في التعذيب، لم يكتفوا بالخوازيق بل ابتدعوا طرقا اخرى مثل قطع الآذان وكانت سياستهم افقار واذلال سكان البلدان التي احتلوها، واشعال الفتن القبلية بينهم لاتفه الأسباب من باب سياسة فرق تسد” وهناك الكثير من المشاهد الماساوية في تاريخ الدولة العثمانية، وهذا لا يستطيع ان ينكره اشد المدافعين عن الدولة العثمانية.
يشير أغلب الكتاب والمؤرخين العرب الى أن تاريخ العثمانيين في المنطقة العربية من أشد عصور الامة العربية انحطاطا وتخلفا، وغاب فيها النتاج الادبي والفكري والعلمي للعرب فظلوا قابعين تحت حكم العثمانيين بالحديد والنار، ونفذ العثمانيين عدد من الاعدامات للوطنيين العرب في دمشق وبيروت أواخر عهدهم في الوطن العربي ١٩١٦/١٩١٥م وكذلك حملة التتريك التي قادتها حكومة الاتحاد والترقي والقمع الشديد للسكان العرب كما منعت جلب ادوات الطباعة الى الوطن العربي باوامر من الباب العالي لكي تبقى الامة العربية في حالة من التخلف تحت رهن الحكم العثماني طيلة أربعة قرون مظلمة، وهناك ملاحظة أيضا أن المناطق التي دخلها الاسلام في اوروبا خلال الحكم العثماني تخلت عن الاسلام بمجرد انتهاء حكم العثمانيين عكس الفتوحات الحقيقية التي حدثت في المشرق وهذا يدلل على أن الحكم العثماني قروسطيا عسكريا لتوسيع الامبراطورية العثمانية فقط .
وأخيرا ينبغي التأكيد على أن أربعة قرون من الحكم لا يمكن ان تكون كلها سوداء قاتمة فهناك بعض الاضاءآت التي كان من الطبيعي أن تظهر خلال تلك الحقبة، ولكن بروز حالة القمع والتنكيل والقبضة الحديدية للعثمانيين وفرض الضرائب والعزلة على الوطن العربي وغياب مختلف جوانب العلوم والابتكار وحالة الجهل والفقر والعوز كانت أبرز السمات التي سادت الوطن العربي خلال تلك الحقبة، واستمر حال العرب على هذا الوضع المأساوي حتى آخر العهد وسميت الدولة العثمانية بالرجل المريض وتم انتزاع كل الممتلكات للقوى الاوروبية وانتهت الدولة العثمانية باعلان جمهورية تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك في عام ١٩٢٣م، وتم احتلال المشرق العربي عن بكرة أبيه وعانى العرب لاحقا من الاستعمار حتى نالوا التحرر بنضالهم العظيم، وما زالت تأثيرات تلك القرون الأربعة متجلية في المشهد العربي حتى اليوم .
خميس بن عبيد القطيطي