تعدُّ عُمان من أقدم الأقاليم الحضارية في شبه الجزيرة العربية، والتي تتركزُ أراضيها في الجزء الجنوبي الشرقي منها، وكان لهذا البلد -عبر امتداد تاريخه القديم والوسيط والحديث والمعاصر-أدوارٌ رائدة على كافة الصُّعد: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية… وغيرها، ولقد قاد نهضتها عددٌ من الرجال الذين شكلوا التاريخ الحضاري لهذا البلد العزيز.
ولا نُبالغ إنْ قلنا إنَّ السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور (1940-2020م) -طيَّب الله ثراه- هو رائد تاريخ عُمان المعاصر، وباني نهضتها المجيدة منذ 23 يوليو 1970م. فعُمان قبلُه ومنذ العام 1856م انقسمتْ وتوزَّعت أراضيها بين أبناء السيد سعيد بن سلطان (1806-1856م)، وفقدت عُمان زنجبار امتداد إمبراطوريتها في الساحل الشرقي الإفريقي، وإن كانت ظلت تحت سلطة أبناء السيد سعيد بن سلطان وأحفاده، إلا أنَّها استقلت عن الوطن الأم، وكانتْ أوضاع عُمان الداخلية والخارجية تتراوح بين حروب داخلية، وأطماع خارجية؛ ليدخل البلد في دوَّامة المشكلات السياسية، بين نظام إمامة في الداخل، ونظام سلطاني في مسقط والساحل، بين تنصيب أئمة شرعيين يحاولون إعادة إحياء نظام الإمامة -كما كان في القرون الهجرية الأولى، حين استقلت عُمان عن الدولة العباسية- ونظام سلطاني مدعوم من بريطانيا؛ حفاظا على مصالحها الاقتصادية في المنطقة. وظلَّت عُمان ترزأ تحت وطأة هذا الانقسام رِدحًا من الزمن، حتى جاء قابوس بن سعيد -رحمه الله تعالى-في 23 يوليو ليُعيد إليها وحدتها وقوتها وأمجادها.
إنَّ الباحثَ في سيرة حياة السلطان الراحل، ليجد فيها العديد من الدروس التاريخية التي تعكسُ ماهية الشخصية التي يتناولها هذا المقال، وماهية الفكر الذي حمله المغفور له بإذن الله، منذ انطلاقة نهضة عُمان الحديثة. ويستعرض المقال هنا بعضًا من الدروس التاريخية الخالدة، مُنطلقا من سيرته -رحمه الله تعالى.
التنشئة:
تلعبُ التنشئة دورًا رائدًا بلا شك في وضع الإطار العام لشخصية الطفل منذ نعومة أظافره؛ فالإنسان ابن بيئته كما يقول ابن خلدون، وبتفاعل الجوانب الشخصية مع البيئة التي ينتمي لها الفرد، تتشكَّل لنا العديد من الشخصيات التاريخية، ودراسة السير الذاتية لأي شخصية لابد أن تنطلق من منطلق التنشئة والبيئة. فقد وفَّر السلطان سعيد بن تيمور (1932-1972م) لابنه تربية ملكية راقية، مُرتكزا على الهُوية العُمانية، فقد تلقى دروسَ المرحلة الابتدائية والثانوية في ولاية صلالة على يد الأستاذ حفيظ بن سالم الغساني مدير المدرسة السعيدية في ظفار آنذاك، وبعدها التحق بكلية سانت هيرست العسكرية عام 1958م؛ حيث التحق بمدرسة سافوك الخاصة حتى عام 1960، حيث التحق بكلية سانت هيرست العسكرية لمدة عامين، ليلتحق بإحدى الفرق العسكرية العاملة في ألمانيا الاتحادية برُتبة ملازم 2، بعدها هيَّأ له والده التعرف على العالم ونُظم الحكم فيها؛ فقام بجولة حول العام لمدة ثلاثة أشهر، ليعود لصلالة عام 1964م/1383هـ، تعمَّق فيها السلطان الراحل في دراسة الدين الإسلامي وتاريخ بلده؛ مما أسهم في تشكيل الفكر السياسي الذي استطاع من خلاله إخراج عُمان من عُزلتها، لتلتحق بركب العالم المعاصر.
الوطن والمواطنة:
حين تولَّى السلطان الراحل -غفر الله له- مقاليد الحكم في السلطنة عام 1970م، ومنذ أوَّل خطاب له، أكد على أهمية الحفاظ على عُمان، ومرتكزاتها التاريخية والحضارية، فقد قال في أول خطاب له في 23 يوليو 1970م: “كان بالأمس ظلام؛ ولكن بعون الله غدًا سيشرق الفجر على عُمان وعلى أهلها… إننا نأمل أن يكون هذا اليوم فاتحة عهد جديد لمستقبل عظيم لنا جميعًا، إننا نأمل أن نكون عند حُسن ظنكم، كما نأمل كذلك وفي الوقت نفسه أن تكونوا عند حُسن ظننا”. وفي أول عيد وطني في 18 نوفمبر 1971م، أكد على المرتكزات ذاتها في بناء الدولة الحديثة؛ حيث يقول: “الأساس هو الشعب في عُمان كان لزامًا علينا أن نبتدئ من الأساس، ومن واقعنا؛ وهذا الأساس هو الشعب في عُمان، وقد سلكنا مختارين أصعب السبل لنخرج به من عزلته، ونأخذ بيده إلى طريق العزة والكرامة، وفي الوقت نفسه تحمَّلنا مسؤولية حمايته من التمزُّق، والضياع، وإحياء حضارته، واستعادة أمجاده، وربطه ربطًا وثيقًا بالأرض ليشعر بعمق الوطنية، ومدى التجاذب بين الإنسان العُماني وبين أرض عُمان الطيبة…”؛ فعمل على إعادة الوحدة الوطنية، لينهي بعد 5 سنوات من توليه السلطة التمرُّد الذي حدث في ظفار، متفهِّما ومادًّا يد السلام والوئام مع أبناء الوطن بمختلف طوائفهم وتوجهاتهم لبناء عُمان الحديثة، مؤكدا أنَّ عصور الانغلاق والعزلة قد انتهت؛ فضمهم لقواته المسلحة ولكادره الإداري تارة أخرى.
وعمل السلطان الراحل -طيَّب الله ثراه- على بناء عُمان عبر سلسلة من المشاريع التنموية عُرِفت بـ”الخطط الخمسية”، ولا نبالغ إنْ قلنا إنَّ السلطان قابوس هو ناقل عُمان المعاصرة من الحكم القبلي التقليدي إلى الحكم النظامي الديمقراطي؛ فأنشأ المجلس الاستشاري للدولة، وبعد عدة أعوام استبدله بمجلس الشورى؛ يمثل أعضاؤه جميع الولايات بانتخابات؛ لتتطوَّر العملية الديمقراطية بإنشاء مجلس عُمان الذي يضم مجلس الشورى ومجلس الدولة، وهما مجلسان يُمثِّلان ما يُشبه بمجلس الحل والاستشارة للدولة وهيئاتها.
وتوَّج السلطان الراحل -طيَّب الله ثراه- بناءَ الدولة بإصدار النظام الأساسي للدولة عام 1996م، وألحقه به بعض التعديلات عام 2011م، والذي يعدُّ قِمة هرم البناء للدولة المدنية الحديثة، وهذا مُنطلقا منه -رحمه الله- من دراسته للتاريخ الإسلامي وقيام النبي صلى الله عليه وسلم بتأسيس دولة المدينة الحديثة في القرن الهجري الأول، بترسيخ المواطنة عبر ما عُرِف تاريخيًّا بالصحيفة أو الدستور المدني، التي وضَّح فيها النبي -صلوات الله وسلامه عليه- الحقوق والواجبات لكافة طوائف وفئات المجتمع المدني، مُوضِّحا كذلك المرجعية القانونية في كل ما يستجد من أمور. وهذا بالضبط ما نقرأه في النظام الأساسي للدولة في عُمان؛ حيث بدأ النظام بتوضيح ماهية الدولة وشكلها، منطلقا لآلية انتقال السلطة فيها ولمن تنتقل؛ لتأتي بعدها المرتكزات الرئيسة للدولة كالمرتكز السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، منطلقا لمهام مؤسسات الدولة من رأس الهرم السلطان، وصولا للمجالس التخصُّصية. وهذا الذي أمَّن الانتقال السلس للسلطة بعد وفاته -رحمه الله تعالى- في 10 يناير 2020م. يقول طيب الله ثراه: “إنَّ رُقي الأمم ليس في علو مبانيها، ولا وفره ثروتها، إنما رُقيها يُستمد من قوة الإيمان بالله، ومكارم الأخلاق، وحُب الوطن”.. وهذه السمات هي ما كان يُؤكد عليه في كل خطاباته في مختلف المناسبات الوطنية منها أو الدينية.
وختامًا.. كان الدرس الأكبر الذي تركه السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- هو أهمية الحفاظ على الأصالة، والاستفادة من التاريخ في صناعة الحاضر وبناء المستقبل، مُوضِّحا أن من ليس له ماضٍ ليس له حاضر، وأنَّ عُمان بلدٌ تاريخيٌّ، لها سبقها بين الأمم والشعوب، وحان الوقت لإعادة هذه المكانة لها، والمُضي قُدما للبناء للأجيال الحاضرة والقادمة، وهي الغاية الأسمى.. رحمه الله تعالى، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته.
د. بدرية بنت مُحمَّد النبهاني – باحثة في التاريخ