نتابع ونعرف حجم الاعتراض على فكرة ومشروع الدولة الفلسطينية من قبل الكثيرين في الوسط الوطني الفلسطيني وخارجه، وحتى أن البعض يذهب إلى حد المؤامرة، فيعتبر أن من يؤيد فكرة الدولة الفلسطينية يخون فلسطين والقضية، وقد سمعت هذا الاتهام من بعض الأصدقاء والرفاق، ولكن في رأيي حتى نتبين استراتيجية الفكرة وأهميتها في المشروع الوطني الفلسطيني، دعونا نتابع حالة الاجماع السياسي- الايديولوجي الصهيوني على إبادة فكرة الدولة الفلسطينية وتدمير عناصرها ومقوماتها، بحيث أن وصلت اليوم عمليًا إلى مستوى المستحيل بفعل المخططات الصهيونية. فلماذا إذن هذا الاجماع الصهيوني على تدمير مقومات الدولة الفلسطينية؟! ألا يعتبر أولئك الفلسطينيون والعرب الذي هاجموا فكرة الدولة الفلسطينية من ذلك؟!
حتى نتنياهو يعلنها منذ ايام قليلة واضحة وفاجرة: “لن أعترف أبدًا وتحت أي ظرف بإقامة دولة فلسطينية” (سما/ الأربعاء 17 يونيو 2020)، وجاء ذلك على لسان رئيس الائتلاف الحكومي ورئيس كتلة الليكود بالكنيست (البرلمان) ميكي زوهار، المقرب من نتنياهو، وفق القناة السابعة الإسرائيلية: “أعلن رئيس الوزراء (بالجلسة) بشكل لا لبس فيه أنه تحت أي ظرف لن يعترف الكنيست أو الحكومة بمبدأ إقامة دولة فلسطينية”.
وأكد زوهار أن “صفقة القرن لن يتم قبولها في الكنيست، يمكن أن تكون أساسًا للتفاوض، لكنها لا تلزمنا بأن نقيم هنا دولة”.
الأدبيات الإسرائيلية المناهضة لمشروع الدولة الفلسطينية تتراكم وتتراكم يوميًا بلا توقف، وكأن هذا المشروع هو القضاء المبرم على “إسرائيل” الذي سينزع شرعية وجودها، فالاعتراف بالدولة الفلسطينية بالنسبة لهم هو نقيض “دولة اسرائيل”، فهم يتعاملون مع القضية والدولة الفلسطينية ب”إما نحن وإما هم”..! ففي خضم الجدل الصدامي حول مشروع الدولة، فالدولة الصهيونية تعتبر حمل مشروع الدولة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة مثلًا، حملة هجومية استفزازية عدائية لها من قبل الفلسطينيين، تهدف إلى محاصرة “إسرائيل” ونزع الشرعية الأممية عنها، فكانت وصفت أيلول بالأسود على “إسرائيل”..!
وتعتبر المؤسسة الأمنية السياسية الاستراتيجية الاسرائيلية أن فلسطين ل”إسرائيل”، وأن من حقها أن تعمل على تفكيك كافة التهديدات المحتملة لبقاء واستمرار تلك الدولة، كما تعتبر أن مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة في مقدمة تلك التهديدات، لذلك تضع تلك الدولة كافة العراقيل التي من شأنها تعطيل هذا المشروع، حتى لو اضطرت في ذلك إلى شن حروب وحروب لا تتوقف على الفلسطينيين…!
المحلل شالوم يروشالمي كشف في معاريف عن حقيقة موقف نتنياهو تجاه الدولة الفلسطينية قائلًا: “نتنياهو مقتنع بأن تقسيم البلاد إلى دولتين هو مصيبة عظيمة وتهديدًا استراتيجيًا من الدرجة الأولى على وجود دولة إسرائيل، وهو مقتنع بأن الدولة الفلسطينية نفسها هي تهديد ديمغرافي فظيع للصهيونية، بعد أن يتدفق إليها ملايين اللاجئين الذين سيطالبون بجمع شمل العائلات وحق العودة”، وهذه الدولة، برأيه، “ستكون اليوم رأس حربة لهجوم عربي شامل على إسرائيل، وحتى جيش صغير نسبيًا، مزود بتكنولوجيا حديثة، يمكنه أن يهدد مدن إسرائيل بشكل مباشر” (“مكان تحت الشمس”، صفحة 339).
ويقول الياكيم هعتسني في يديعوت على لسان نتنياهو، “المواطن القلق” الذي يسمى بنيامين نتنياهو حذر في كلمة أمام الناس فقال: دولة إسرائيل لا يمكنها أن توجد إلى جانب دولة فلسطينية إذا لم تضمن هذه القيود: أن تكون مجردة، أن تسيطر إسرائيل على معابر حدودها ومجالها الجوي وتشرف على مصادر المياه، ويحظر عليها عقد اتفاقات دولية حساسة، غير أنه لا أمل في أن تفي الدولة الفلسطينية بهذه القيود، والعالم سيؤيدها، وعليه – فقد أجمل نتنياهو – فمحظور أن تقوم!”.
إلى جانب كل ذلك، يجدد نتنياهو التأكيد في كل مناسبة على أن أي تسوية سلمية “يجب أن تلبي الحاجات الأمنية لإسرائيل”، مضيفًا “لن يكون هناك سلام مع الفلسطينيين دون اعترافهم بيهودية دولة إسرائيل”، وموضحًا: “أن الدولة الفلسطينية فكرة غبية وهي مصطلح والمهم هو ماهيتها واختصاصها”. ونقل موقع صحيفة “يديعوت أحرونوت” الالكتروني عن مسؤولين كبار في حاشية نتنياهو قولهم فور عودتهم من واشنطن؛ أن حل الدولتين “حل صبياني لقضية شديدة التعقيد”، فيما وصف آخرون الحل المطروح بـ”الغبي”.
واستبعد موشيه يعلون وزير الشؤون الإستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية، “إمكانية قيام دولة فلسطينية “قابلة للحياة”، مرجحاً “أن ينشأ هناك “كيان معادٍ لإسرائيل”، مردفًا “أن الهدف الفلسطيني ليس دولة في حدود 1967، بل دولة فلسطينية على خرائب دولة اسرائيل”. وقال بيني بيغن من جهته: “وفقًا لمفهومي، فإنه لن تكون هناك سيادة غير إسرائيلية في المنطقة الواقعة غربي نهر الأردن ولن تقوم دولة فلسطينية”.
وعلى نحو متكامل، لا تقلل “إسرائيل” من خطورة الدلالات الأخلاقية والقانونية والمعنوية للقرارات الدولية المناصرة للحق العربي الفلسطيني ولإقامة الدولة الفلسطينية، لذلك تجند كافة طاقاتها ولوبياتها وأدواتها في العمل من أجل إحباط مشروع الدولة وإسقاطه عن الأجندة الأممية، فهي تعتبر هذا التوجه استفزازًا بل حربًا إعلامية أخلاقية تشكك بشرعية وجود “إسرائيل”، وفي ذلك قالت صحيفة يديعوت أحرونوت “أن إعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد وحصولها على اعتراف الأمم المتحدة، سيخلق أزمات قانونية عديدة أمام إسرائيل، إلى جانب صعوبات على المستوى الأمنى والمدنى والدبلوماسى”.
يقول الكاتب آري شبيط في هآرتس “العنوان على الحائط: إذا اعترفت الجماعة الدولية بالدولة الفلسطينية، ففي تلك اللحظة ستصبح كل شقة إسرائيلية في التلة الفرنسية غير قانونية، وستنقض كل قاعدة عسكرية في الضفة الغربية سيادة دولة مستقلة عضو في الامم المتحدة، ولن يكون الفلسطينيون ملزمين بنزع السلاح والسلام والاعتراف المتبادل الحقيقي والمصالحة على الأراضي، وستكون إسرائيل ملزمة بإنهاء كامل في الحال للاحتلال، وستتحول المواجهة سريعًا إلى مواجهة شعبية، وعندما يستعمل الجيش الإسرائيلي القوة في مواجهة المتظاهرين الفلسطينيين الذين سيسيرون في مسيرات نحو القدس سيتم التنديد بإسرائيل. إن حصارًا سياسيًا من الخارج وانتفاضة مدنية من الداخل سيخنقان إسرائيل بقوة”.
وفي المشهد كذلك نستحضر الأدبيات السياسية الامريكية التي تقف وراء انحياز الإدارة الأمريكية إلى الموقف الإسرائيلي التي تعتبر هذا التوجه الفلسطيني عملًا استفزازيًا ل”إسرائيل” ولن يسفر عن شيء حقيقي للفلسطينيين، فقد رفضت الولايات المتحدة خطط الفلسطينيين للحصول على اعتراف بدولة مستقلة من جانب واحد في الأمم المتحدة قبل التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل، ويذكر أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان قد أكد أن “التصويت في مجلس الأمن لن يقيم دولة فلسطينية”، وإنه يعارض هذه الخطوة، فبات واضحًا تمامًا أن واشنطن ستستخدم الفيتو ضد إعلان الدولة الفلسطينية.. وصولًا إلى ترامب وصفقته التي شطب فيها تمامًا، ليس فقط احتمالية إقامة الدولة الفلسطينية، بل وكل الحقوق الوطنية الفلسطينية.
فالواضح المستخلص من كل حكاية المفاوضات العبثية على مدى نحو خمسة وعشرين عامًا مهدرة من عمر القضية، أن سؤال الدولة الفلسطينية كان دائمًا السؤال الأكثر تفجراً في العلاقة الفلسطينية – الإسرائيلية، والجدل بين الجانبين حوله جدل ملغم بالتهديدات المبطنة أو الصريحة في ظل حرب إعلامية / نفسية / معنوية / تحريضية، ضد أي محاولة فلسطينية باتجاه إعلان الدولة أو اللجوء إلى الجمعية العامة أو إلى مجلس الأمن، كما تابعنا وشاهدنا خلال السنوات والشهورالقليلة الماضية.
كانت الدولة الفلسطينية دائمًا الخيار الجارف أمام كل الفلسطينيين في الداخل والخارج الفلسطيني على حد سواء، وتقف وراء هذا الخيار كافة الفصائل والقوى الفلسطينية، ناهيكم عن أنه تقف وراءه جملة من القرارات الدولية الصادرة على مدى نحو 72 عاماً من الصراع، وبينما كان الهدف الفلسطيني الكبير والعريض من وراء قصة “عملية المفاوضات والسلام” هو في المحصلة تحقيق “حق تقرير المصير” و”إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة – وفق القرارات الدولية- على كامل مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية، فإن الهدف الإسرائيلي الكبير والعريض ومتعدد الغايات والأبعاد من وراء كل قصة “عملية المفاوضات”، كان تكريس “دولة إسرائيل – دولة للشعب اليهودي” أولًا، “والحصول على الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية” لهذه الدولة ثانياً، ثم ضم نسبة كبيرة تتراوح حسب المشاريع السياسية الإسرائيلية ما بين 40-60% من مساحة الأراضي المحتلة إلى السيادة الإسرائيلية ثالثًا، ثم “تخليد القدس الموحدة عاصمة إسرائيل إلى الأبد” رابعًا، ثم “تدمير مقومات الاستقلال الفلسطيني الحقيقي وبناء الدولة المستقلة” خامسًا، و”ضمان التفوق والهيمنة الاستراتيجية الإسرائيلية على المنطقة كلها” سادسًا.
ولعلنا نختم في ضوء كل ذلك، أن الدولة الفلسطينية في دائرة الاستهداف الإبادي الصهيوني-الأمريكي، وأن مشروع ضم الأغوار وتهويدها هو تدمير لأهم مقومات الاستقلال والدولة الفلسطينية.
فمعركة الدولة الفلسطينية إذًا، حقيقية وكبيرة، والدولة تنتزع انتزاعًا ولا تقدم لنا على طبق من فضة هكذا… غير أن هذه المعركة تستدعي بقوة ان يعمل الفلسطينيون أولاً قبل الآخرين، على لملمة أنفسهم وترتيب بيتهم الداخلي وأوراق قوتهم من جديد، وتستدعي في مقدمة ما تستدعيه وحدة الفلسطينيين في الخنادق والبنادق؛ الأمر الذي لا يبدو في المشهد الفلسطيني الراهن، ما يطمئن الدولة الصهيونية إلى زمن مفتوح، إلا إذا انتفضت واشتعلت فلسطين مستيقظة من سباتها كما قال شاعرها محمود درويش…!
نواف الزرو / كاتب صحفي وباحث خبير في شؤون الصراع العربي – الصهيوني