رحيل صاحب تجربة “اللوحة المنحوتة” عبد الحيّ مسلّم .. الفنان الفطري الذي ظلّ وفياً لذاكرة الطفولة وقضية شعبه
عمّان ، في 3 أغسطس / العمانية / تكتسب تجربة الفنان الفلسطيني عبدالحي مسلّم خصوصيتها من كون صاحبها مارسَ الفن بالفطرة ولم يتم إعداد تدريباً أو تعليماً منهجياً في أيٍّ من المعاهد الخاصة لذلك ، على خلاف كثير من أبناء جيله من الفنانين.
ينتمي مسلَّم الذي توفي في عمّان مساء السبت 1 أغسطس ، إلى قرية الدوايمة قرب مدينة الخليل الفلسطينية ، فقد وًلد فيها عام 1933 ، وغادرها على إثر النكبة في عام 1948 ، وتنقل بعد ذلك بين مهن عديدة إلى أن تبلورت موهبته الفنية وهو في أواخر الثلاثين من العمر ، فاستخدم الطين أولاً ، ثم استعان بعجينة الغراء والخشب مكوّناً منحوتات غائرة ونافرة على حد سواء.
فقد سافر مسلّم من الأردن إلى ليبيا، وهناك تفاقمَ شعوره بالوجع والاغتراب والحنين إلى الوطن، فوجد في الفن وسيلة للمقاومة والتحايل على النسيان، واستعان بمزيج الغراء والنشارة الخشبية الذي أضحى سمة لصيقة بتجربته، إذ دأب على مزج هاتين المادتين بنسب معينة ومعالجتهما بأدوات نحتية، مشكّلاً بهما الأجساد والأشياء، وجامعاً في التقنية بين اللوحة والمنحوتة معاً.
وفي عام 1971 شارك مسلّم في معرض طرابلس الدولي للفن التشكيلي، وكانت تلك بداية مسيرته الاحترافية التي أنجز خلالها آلاف اللوحات، وأقام عشرات المعارض الفنية، متنقلاً بين بيروت ودمشق وعمّان وعدد من العواصم العربية والعالمية التي احتفت بتجربته من خلال اقتناء أعماله وتناولها نقدياً وجمالياً، وعدّها نموذجاً في مجالها.
اتسمت أعمال مسلّم في البدايات بالبساطة، وغالباً ما كانت تصوّر إنساناً بزيّ فلسطيني/ تراثي، ثم طوّر تجربته بما أتاح له التعبير عن مجاميع بشرية ومشاهد مركبة وتكوينات متداخلة، وفي مرحلة لاحقة اتجه إلى الرموز والكائنات الخرافية والعوالم الأسطورية والأدوات المتنوعة، كالأسلحة والمحاريث والأواني، إضافة إلى الأشجار بأنواعها، للتعبير عن خطاب جمالي وأيديولوجي، يكمّل كلّ منهما الآخر.
فعلى مستوى الخطاب الجمالي، يشاهد المتلقي كرنفالاً من الألوان وتدرجاتها وتوزيعها بنسب ومساحات مدروسة بما يخدم أطروحة اللوحة والقضية التي تتناولها. وعلى مستوى الخطاب الأيديولوجي لم يغادر الفنان المنطقة الأثيرة التي عثر على ضالّته في التعبير عن نفسه ومكنوناته من خلالها، فانحاز للإنسان البسيط ولقضية شعبه التي تتلاقى مع قضايا شعوب أخرى تناضل لتقرير مصيرها ونيل حريتها، ما جعل لوحاته/ منحوتاته ذات صبغة إنسانية.
ويمكن القول إن سهولة تلقّي أعمال مسلّم من قِبَل العامة، وعدم اقتصار التفاعل معها على المتخصصين و”النُّخَب”، هو نتيجة متوقَّعة لإحساسه الفطري الصادق، فلا يحتاج المرء إلى بذل جهد في تأويل مضامين أعماله أو تفسيرها، رغم ما تكشف عنه من غنى في المدلولات والإيحاءات والإسقاطات.
وتدور معظم أعمال مسلّم حول طفولته في القرية، وحياة المنافي والشتات، وضياع الأحلام وخيبة الأمل. إذ استعان الفنان بشريط طويل من الذكريات، مؤرخاً الأحداث الكبيرة والصغيرة، وموثقاً التفاصيل والقضايا التي يشتبك فيها الخاص بالعام.
لذلك، يمكن وصف مسلّم بأنه “فنان توثيقي” في الدرجة الأولى، إذ تمثل أعماله مكتبة بصرية متكاملة ترصد تاريخ فلسطين قبل عام 1948، وتعاين المسيرة النضالية لشعبه بعد النكبة. وهو ما أكده مسلّم في حوار صحفي معه، إذ يقول: “أحاول تقديم الذاكرة عبر أعمالي، وعندما أدخل إلى المحترف كل صباح أحس نفسي عائداً إلى القرية، وأتأمل الأعمال المعلّقة على الجدران، تلك التي تمثل جزءاً من الحياة اليومية الراسخة في الذاكرة”.
وقد أطلق المخرج محمد مواس على “شريط فيديو” أنجزه عام 1986 عن أعمال عبدالحي مسلم اسم “نشارة الخشب”، للتدليل على مركزية هذه المادة في تجربة الفنان الذي صرّح ذات مرة أنه يقدّرها “وكأنها نشارة من الذهب”، مضيفاً في هذا السياق: “وجدتُها مادة جميلة وطيِّعة، ألوّنها بعد إنجاز العمل أو أتركها على طبيعتها. هذه هي التقنية التي أستخدمها لأنجز أعمالي الفنية، وهي عبارة عن نشارة الخشب ممزوجة بالغراء الأبيض وأقوم بتشكيلها على قطعة خشب تكون محضرة مسبقاً”.
وبحسب ما كتبه الفنان إسماعيل شموط قبل نحو 40 عاماً: “وجد عبد الحي مسلّم نفسَه في لوحته المنحوتة، وعرف من خلالها كيف يشارك أبناء شعبه آلامه وآماله”. وأضاف: “اللوحة عند مسلّم هي منحوتة في الوقت نفسه.. إنه عمل فني تشكيلي.. لوحة بنحت بارز، يكتب على بعض لوحاته أشعاراً تارة بالفصحى وأخرى بالعامية، وعلى بعضها يكتب خواطره”.
وتابع شموط بقوله: “يسعى مسلّم لأن تكون كل هذه العناصر وحدة منسجمة لهدف واحد.. إنه العمل الفني العفوي الصادق الجميل.. وقد أدرك هذا الفنان عمق العلاقة بين الإنسان الفلسطيني والأرض، فجعل الشجرة التي أصبحت في لوحاته وكأنها توقيعه شجرةً مقدسة”.
أما الناقد د.عز الدين المناصرة، فاستعرض تجربة مسلّم في كتابه “موسوعة الفن التشكيلي الفلسطيني في القرن العشرين” قائلاً: “لا تحتاج لمدخل أيديولوجي أو مدخل ثقافي لقراءة الخطاب التشكيلي للفنان عبد الحي مسلّم.. فنان شعبي يقدم لك لوحاته المجسمة بتلقائية مكشوفة.. إنه لا يقتطع الموروث الشعبي ويحوّله إلى ديكور استشراقي، بل يغوص في نفسه وفي الحياة ليستعيد ملامح شعبية فطرية من الحياة الزراعية في جنوب فلسطين التي عاش طفولته فيها ويعيد نمذجتها واختصارها في رموز شعبية سهلة القراءة”.
وأضاف المناصرة: “يبتعد مسلّم عن المنظور الاستشراقي، ليصوغ ذاته بل قاع ذاته الفطرية وفق تشريح شعبي أسطوري يكسر الهيئة الواقعية. إنه يزين منحوتاته المجسمة بأبيات من الشعر الشعبي تناسب المقام، وهو لا يفتعل أيّ تحديث صناعي في الخطوط الشعرية، بل يتركها كما كان الرسام الشعبي القديم يرسمها في السيرة الشعبية.. ولا توجد أيّ رموزية معقّدة في مجسماته، بل هي مجموعة من العلامات التقليدية الشعبية”.
أما الناقد والفنان حسين دعسة، فقال عن تجربة مسلّم: “ينساب التراث بهدوء وجمال عفوي إلى لوحات ومحفورات عبد الحي مسلّم الذي تلمس بيديه حساسية الأشكال وقيمها الجمالية، لكونها جاءت عبر تَراكم التجربة الحياتية.. ولهذا نرى البعد التراثي قد ساد في منجزه الجمالي”.
لقد تتلمذ عبد الحي مسلّم على نفسه ونهل من خزين طفولته الغنيّ ، وأخلص لقضيته الوطنية فكانت الموضوع الأوحد للوحاته ، ومن بوابة هذه القضية وصل إلى العالمية بالحفر في مفردات البيئة الفلسطينية المحلية. وذلك جاء تكريمه بمنحه جائزة محمود درويش للإبداع (2014). وقد نعت مؤسسة محمود درويش ، يوفر للجائزة ، الفنان الراحل في بيانٍ جاء فيه أنه مسلّم “التحق بالعمل الوطني الفلسطيني منذ بداياته ، وأخلص له ، ورسم بأسلوبه الخاص والمميز فلسطين وتراثها وطقوس الحياة الاجتماعية واليومية لأهلها وفلاحيها ، مستحضراً الرموز البصرية للثقافة الفلسطينية الشعبية ، فكان الأشعةه حارس الذاكرة الريفية الشعبية “.
/ العمانية / 174