أن تكون هناك خريطة، فذلك أمر محمود، حيث يفترض أن أي خريطة هي أفضل من السير بلا دليل، فالخريطة هي تضاريس ومواقع وقياسات واتجاهات، وكلها ضرورية لمن أراد أن يتحرك، إلا أن الخريطة هي أيضاً صورة مصغرة للواقع، كما أنها لا يمكن أن تكون رسماً لما هو غير موجود، فلا توجد خريطة مثلاً للفراغ .
أخطاء الفرنجة :
أتذكر أن صديقاً من أهل الفرنجة أرسل لي بطاقة دعوة لحضور مناسبة في مكان ما، ورسم لي ـ مشكوراً ـ خريطة للطريق الذي يصل إلى هذا المكان، وقمت بدوري بتسليم الخريطة إلى السائق، وقبل الموعد المحدد بوقت مناسب بدأنا في التحرك، وظل السائق يدور بالسيارة لأكثر من ثلاث ساعات دون أن نهتدي إلى المكان، وسألنا كل من قابلناه في الطريق دون جدوى، ولما كانت مدة الدعوة ساعتين فقط فقد طلبت من السائق أن يرجع بنا إلى المنزل، وكانت مشكلة كبيرة حيث أننا بعد كل هذا التيه فقدنا طريق العودة ..
فيما بعد أدركت السبب، فالصديق العزيز الفرنجي كان لديه بطاقات مطبوعة أثناء عمله في دولة أخرى، وقد اختلطت ببطاقاته الجديدة، ولسوء الحظ كان المكان الجديد يحمل نفس اسم المكان القديم، ولكن التفصيلات بالطبع مختلفة، والحق أن السائق حاول أن يقنعني بأن الخارطة ليس لها واقع، ولكنني لم أشك لحظة في دقة وأمانة الصديق الفرنجي الذي يبدو أنه اهتم بوصول الدعوة في موعدها ولم يكن لديه نفس الاهتمام بإمكانية الوصول. هذه الواقعة تؤكد أنه يمكن أن تكون هناك خريطة ليس لها علاقة بالواقع، وحين يتم اختطاف الطريق نفسه، فمن المضحك أن يتحدث أحد عن خارطة لذلك الطريق!..
الخارطة المعصومة :
لدينا الآن «خارطة الطريق» التي قدمتها اللجنة الرباعية من أجل حل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وقد أصبحت تفاصيلها الآن معلومة للكافة، فالتضاريس مرسومة، والمواقع مثبته، وهناك قياسات واتجاهات، وهي خارطة أنيقة شاركت في إعدادها أكبر القوى في العالم: أميركا وأوروبا وروسيا ومعهم الأمم المتحدة، أي أنها ليست خارطة رسمها تلميذ أو حتى دكتور جغرافيا في الشرق الأوسط، بل هي خلاصة أفضل عقول الاستراتيجية في الألفية الثالثة كما يقولون وبالتالي فلابد أن التضاريس محددة بدقة، والمواقع تم إسقاطها بالمللي والسنتيمتر، والقياسات لا يتصور أن يأتيها الباطل من أي اتجاه، والاتجاهات لا يمكن أن تعبر إلا عن اتجاهات أصلية، أي يفترض أنها خارطة معصومة من الخطأ .
التضاريس :
الهدف النهائي أو نهاية هذا «الطريق» هو «إنشاء الدولة الفلسطينية»، وأهم التضاريس هي قراري مجلس الأمن 242، 338، باعتبارهما علامتين إشاريتين أثريتين لا يمكن عبور هذا الطريق دون المرور عليهما، إلا أنه بطبيعة الحال لم يعد خافياً أن موقف إسرائيل الثابت من هذين القرارين أنهما لا يعنيان الانسحاب من «الأراضي» وإنما مجرد انسحاب من «أراض»، بل أن هذا الإنسحاب القاصر تربطه إسرائيل بمجموعة من الشروط التي تتضمن حفنة من التنازلات الجوهرية أبرزها «القدس» و«حق العودة»، وهما بدورهما علامتان بارزتان على هذا الطريق، بل لا يمكن تصوره خالياً منهما، لأن غياب تلك التضاريس الهامة يعني ـ على الأقل ـ أننا بصدد طريق آخر ليس هو الطريق المقصود، بحيث يصبح من العبث محاولة السير فيه حيث سيكون ذلك مجرد مضيعة للوقت، وربما أدى ذلك إلى فقدان طريق العودة نفسه. إذاً، فنحن إزاء علامات واضحة تريد إسرائيل زحزحتها من مواضعها، ولا شك أن نقل أي علامة من الطريق تعني ـ على الأقل ـ انحرافاً عن هذا الطريق..
ولكن ذلك ليس كل شيء…
المواقع :
المواقع في الخارطة المذكورة يمكن التعبير عنها بأنها هي مجموعة الالتزامات المتبادلة للطرفين، فكل التزام فلسطيني يقابله التزام إسرائيلي، وذلك هو «جسم الطريق»، وهذه الالتزامات الثنائية المتبادلة والتي ينبغي أن تكون متزامنة، تضمن توازن واستقرار الطريق، ولو تصورنا أنه عند بناء طريق سيتم التركيز على جانب واحد منه، فإن النتيجة أننا سنكون ـ على الأقل ـ قبالة طريق مائل قد يسمح ببعض الخطوات لكنه معرض للانهيار في كل لحظة، ومن المؤكد أنه سينقطع قبل الوصول للهدف النهائي بمسافة كبيرة…
والواضح أن إسرائيل ليس لديها الرغبة أو النية أو حتى الارادة الذاتية للمشاركة في بناء جسم الطريق الخاص بها، وعلى الجانب الفلسطيني يقع العبء كله في بناء كل شيء.. ثم مسئولية الحفاظ على سلامة هذا الطريق المختل ولو أدى الأمر إلى حرب أهلية فلسطينية، وتلك هي الصيغة الهندسية للدمار، وربما هو ذلك ما أراده شارون حين أعلن موافقته المشروطة على خارطة الطريق..
القياسات :
أما القياسات، فالمفترض أنها تعبر عن البرنامج الزمني الذي كان من المفروض أن ينتهي في العام 2005، ولا شك أن خبرتنا التاريخية في المنطقة تذكرنا ـ على الأقل ـ بما سبق أن قاله رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين، حين ذكر بحيادية يحسد عليها: «أنه لا توجد تواريخ مقدسة»، والمرحومة «أوسلو» خير شاهد على ذلك، فإذا كان ذلك هو موقف الرجل الذي كانوا يعتبرونه «حمامة» فما الذي يمكن أن يتوقعه أحد من الرجل الذي يتباهى بأنه صاحب ملحمة «الحمام»؟، بل ولقد استمرت بالفعل التحفظات الإسرائيلية تتوالى بما يعني أن قياسات الخريطة ليست على المقاس الإسرائيلي، وهذا يعني أيضاً ـ على الأقل ـ أن الطريق في الخارطة المذكورة ليس هو نفسه الطريق الإسرائيلي.
وإذا أخذنا التصريحات الرسمية الأميركية بما تستحقه من الجدية، فسوف نجد أن المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض قد أعلن أن أميركا سوف تأخذ التحفظات الإسرائيلية على الخارطة بعين الإعتبار، وإذا كان ذلك هو رأي كبير مهندسي المشروع، فيجب أن نسلم بأن الطريق سوف يختلف…
الاتجاهات :
ثم تبقى مسألة الاتجاهات، ولعل أبرزها اتجاه السلام العادل والشامل والدائم في الشرق الأوسط، وهو الاتجاه الرئيسي الذي يجب أن تتجه إليه بوصلة الطريق، والذي يجد تعبيراً عنه في طرح المبادرة العربية التي تم تقديمها في قمة بيروت عام 2002، وأشارت إليه خارطة الطريق، فمرة أخرى نجد أن إسرائيل تطالب بحذف هذه الإشارة، أو بمعنى آخر ـ على الاقل ـ تريد أن تحذف الإتجاه الرئيسي لهذا الطريق، وهي بذلك تفصح عن رؤيتها الحقيقية لتلك الخارطة بغض النظر عما يمكن أن تبديه فيما بعد من قبول لبعض النقاط هنا أو هناك…
خارطة و خارطة :
نستخلص مما تقدم أن الطريق نفسه بالفعل غير موجود، والخارطة المذكورة ما هي إلا وثيقة أخرى من الوثائق التي تراكمت على مدى أكثر من نصف قرن ومزقتها الدبابات الإسرائيلية، بينما أحتفظنا بها كالتعاويذ التي تصرف عنا شياطين الإنس والجن.
ومن المؤكد أن «خارطة الطريق» لا يمكن فصلها عن «الخارطة الأكبر للمنطقة»، ففي الجغرافيا السياسية لا يمكن النظر جزئياً إلى قطعة من الأرض بمعزل عما يجاورها، فالتضاريس تمتد من منطقة إلى أخرى، والظواهر الطبيعية تتشابه، كما أن النشاط الإنساني يتبادل التأثير والتأثر، ولا شك في أن «خارطة العراق» مثلاً ـ على الأقل ـ تفرض نفسها فرضاً على الخارطة الجديدة، فهذه خارطة جديدة للزلزال الذي أصاب المنطقة ولا بد أن تمتد بعض شروخه إلى «خارطة الطريق» بل وإلى الخارطة الإجمالية للمنطقة العربية، ومن التفاؤل غير المبرر أن يحاول أحد نزع تلك الخارطة عن محتواها، وفي هذا الإطار لا يمكن أن نغفل العمليات الإرهابية الأخيرة في السعودية والمغرب لأنها تمثل أيضاً «خارطة طريق أخرى» يبدو أنها بلا تضاريس أو مواقع أو اتجاهات أو قياسات، وهكذا تتعدد الخرائط التي لا تعبر عن طريق، وذلك يؤكد مرة أخرى أن الطرق لا ترسم على الخرائط إلا بعد أن تتحقق على الأرض..
وهنا مرة أخرى أستعيد موقفاً شخصياً، حيث أصطحبني والدي ـ رحمه الله ـ إلى إحدى دور المحاكم كي أحضر مرافعة له، حيث يترافع عن رجل ريفي بسيط يطالب باسترداد أرض أغتصبها منه أحد مراكز القوى في عهد سابق، وكانت حافظة المستندات مكتظة بما يثبت حق هذا الرجل، وكذلك شهادات الشهود، وكانت المرافعة بليغة تناولت الحق وتاريخه وأفردت تفصيلات الإغتصاب وفي النهاية فصل القاضي في النزاع فأقر المغتصب على الأرض بحجية الحيازة الممتدة والمستقرة …
لا زلت أذكر ذهولي آنذاك، إلا أنني لا أنسى أيضاً تعقيب الوالد: «لا يكفي أن يكون الحق معك، فلا بد أن تكون لديك إرادة الدفاع عن هذا الحق» وأخشى أن تلك العبارة هي خارطة الطريق الحقيقية!.
الاستاذ السفير / معصوم مرزوق- مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق