لم يكن خروج الرجل على عجلة من أمره مريبًا، بل كان حدثًا عاديًا حيث تعود دائما الخروج بشكل يوحي للناظر إليه بأنه على عجلة من أمره. بل الأمر يزاد غرابة، حيث كان هذه المرة يمسح آثار عرق على ما يبدو، كان جبينه يتفصد عرقا على أقرب تقدير إن لم يكن ماء!!.. المهم بدت حكاية الرجل بخروجه المفاجئ..
أدار محرك سيارته التي عرفت في الحارة المميزة بين قريناتها من السيارات، فهي من طراز قديم، وبها من الخدوش والانحناءات التي تزين كل أركانها، ولا توحي بأي أمر مميز!.. نعم لكنها تعمل، والرجل يستخدمها هكذا منذ خروجه من بيته مستعجلا..
نادرًا ما يفتح الرجل نافذة السيارة، لعلكم تعتقدون بأن جهاز تكييف السيارة يعمل. طبعا لا؛ بسبب قدمها واهترائها فاشتغال المحرك هو ما يدعها وسيلة مواصلات مناسبة. إذًا لماذا يغلق النافذة؟! والغريب بأنه ينظر بعمق نحو الأمام .. مستمتعًا بعزف سيارته ودخانها، ولولا حركتها البطيئة للأسباب التي تعلمونها لمشى بسرعة أكبر..
ركن سيارته في موقف ترابي يبدو بعيدًا عن بقية السيارات المركونة تحت المظلة التي تحتوي على مئات السيارات.. المكان من الوهلة الأولى يبدو رسميًا، ومحترمًا، خرج الرجل على عجل لكنه رجع؛ ليرش عطرا رخيصًا من عطور الباعة الذين يبيعون بالجملة على أغلب الظن. خرج يحث الخطى لا يلتفت، بل يمسك دربه ويشد على محفظته وكأن بها سرا دفينا، ولنا أن نتخيل ما تحويه هذه المحفظة.. بطاقات قديمة، وعملات معدنية، وأوراق بها أرقام، وبعض القصاصات التي وزعت على جوانبها. إلا أن الصورة التي وضعها في بطن المحفظة تحاط بشيء من الأهمية لعلها تعني له الكثير، ومن ملامح وجهه فهي توحي بأنها التقطت على عجل.
دخل إلى ما يبدو مكتبًا واسعًا، وسرعان ما ولج إلى مكان أصغر، أشعل موقد النار، وضع أناء ضخما وسكب ماء عليه، ومزج السكر والحليب بالماء المسخن، وبعدها قام بصنع القهوة، ولولا الدلال الموجودة على طولة مركونة بجانبه لما عرفنا أن الشراب الأول كان شايًا والثاني قهوة. كان حريصا كل الحرص على إنجاز عمله وتنظيف كل مخلفاته. أنهى عمله بسرعة وكعادته كان مستعجلًا، جلس على كرسي خشبي محشور بين جدار أسمنتي وثلاجة ماء، رفع هاتفه، يبدو من أصابع يديه أنه يكتب رسالة أو يرد على رسالة، ضحك بقوة، ربما تذكر موقفًا أو شاهد صورة أدخلت الفرحة إلى قلبه، ضحكته كانت مؤقتة سرعان ما اختفت ملامح الابتسامة من سحنة وجه.
بعدها بدأت وفود أخرى تصل رجالًا ونساء منهم من يسلم ومنهم من لا يسلم عليه، وفي كلا الحالتين هو ينظر للجميع بفتور، لم يمض كثير من الوقت.. توقفت الحركة، وصار صوت حفيف الورق والنقاشات وأصوات الهواتف والضحكات تتعالى من وراء الأبواب المغلقة، كانت جميع الأكواب التي وزعها الرجل قد اختفت في بطون الرجال والنساء..
خرج الرجل من المبنى، ومشى على هدوء وسكينة، وركب سيارته، وأدار محركها عدة مرات، ثم تحرك، وفتح النافذة، ونظر إلى يمينه، وانطلقت السيارة مخلفة ضجيجًا صاخبًا، إلا أن الرجل هذه المرة لم يكن مستعجلًا، ولم يمسح أي عرق من جبينه، بل اكتفى بالهواء العليل الذي ينساب من النافذة، وفكر في يومه الجديد الذي سيرحل فيه على عجل..
علي بن سالم بن محمد الغافري
ولاية الرستاق – فلج الحديث