…
قبل أيام كنت في زيارة إلى صديق مريض في منطقة الروضة التابعة لنيابة سمد الشان و التي بدورها تابعة لولاية المضيبي الشاسعة .
جلست مع صديقي أطمئن على صحته وادردش معه .
قضيت معه أكثر من أربع ساعات .. دردشة وفضفضة وتفكها..
في أثناء جلوسي معه جاء لزيارته أبن أخته .
شاب صغير السن وسيم وأنيق أول ما يلفت نظرك فيه هو عينيه اللتان تشعان نشاطا وتلمعان طموحا وجرأة وتوثبا .
أخبرني هذا الشاب الشجاع بأنه منذ سن السابعة عشرة وهو يعمل .
عمل في شركات متوسطة ..
وعمل في مصانع صغيرة..
وعمل في مخبز ..
وعمل في مغسلة ملابس ..
ثم عمل في شركات كبيرة لكن كلها كانت براتب ضعيف لا يكفي لتسهيل متطلبات الحياة التي تزيد وتتراكم ولا يتمكن من تفكيك عقدها التي تشتد و تتشابك يوما بعد يوم .
يقول : آخر وظيفة لي كنت أعمل مندوبا مبيعات في إحدى شركات السيارات منذ ثلاث سنوات وفي نفس الوقت كنت أبحث عن فرصة عمل أفضل .
فأرسل طلباتي طلبا تلو طلب وأقرع الأبواب وأدخل مقابلات .. مقابلة تلو مقابلة .
ولكن دون جدوى .
هل كنت أحتاج إلى الحظ ام أنني بحاجة ماسة الى الواسطة .. أم أنا في حاجة إلى الإثنتين معا ؟؟
كنت أؤمن بالواسطة إيماني باليوم الأخر .
كنت أعتقد اعتقادا جازما بأنها الوسيلة الوحيدة للنجاح والحصول على فرصة عمل مناسبة وطموحه في هذا الوطن .
ولكني اكتشفت بأن الواسطة شيء تافه جدا و ربما لا قيمة لها مع وجود الإصرار والإيمان والعناد الشديد .
يقول الشاب :
تقدمت بطلب لوظيفة نائب مدير فرع في إحدى البنوك أرسلت الطلب إلكترونيا كغيره من الطلبات التي أرسلتها إلى أكثر من شركة .
بعد أسبوعين جاءني اتصال من البنك لحضور المقابلة .
طبعا لم أشعر بالحماس والرغبة قي الذهاب إلى تلك المقابلة لأنني لا أملك السلاح السحري وهو الواسطة للنجاح في المقابلة والظفر بالوظيفة الشاغرة ..
ولكني تشجعت وحقنت نفسي بالأمل والرجاء والإصرار .. وقلت لعلها تصادف ساعة حظي التي أنتظرها منذ سنوات .
ذهبت الى المقابلة وأنا يائس تماما من الحصول على الوظيفة لأنني كنت أؤمن بالواسطة إيمانا راسخا قاطعا .
لكن بعد خروجي من تلك المقابلة ألقيت بعقيدتي الواسطية في أول صندوق قمامة قابلته خارج المبنى الذي أجريت فيه المقابلات .
فور المقابلة مباشرة قال لي المسؤول : خلاص اعتبر نفسك موظف معنا .
فضحكت وقلت له من باب السخرية والتهكم ولأنني معتاد على تلك العبارات الرثائية : وما هي حوافزكم في هذه الوظيفة ؟
فقال لي : الحوافز كذا وكذا ..
فقلت له : حوافزكم لا ترقى إلى المستوى المتوقع من بنك كبنككم ..
فقال لي : وماذا تريد أنت من الحوافز ؟
فأخبرته بالحوافز التي أرغب فيها وأنا مازالت مؤمنا إيمانا جازما بأن هذا الكلام مجرد كلام فارغ ودردشة سخيفة لاستهلاك الوقت .. ولا علاقة له بالواقع أبدا . وأنني حين أخرج من هنا لن يصلني اي اتصال منهم مطلقا .
في نهاية المقابلة
قال لي مشرف المقابلة ( أعطينا يومين فقط وسنرد عليك .)
أيضا هي عبارة اعتدت أذناني سماعها خلال عشرات المقابلات الوظيفية التي اجتزتها .
لذلك لم أتوقع اتصالهم وخرجت ناسيا كل ما قيل لي وقفلت عائدا من حيث أتيت .
الذي غير اعتقاداتي كلها هو أنهم اتصلوا بي فعلا ووافقوا على شروطي وطلبوا مني الحضور حالا وتوقيع عقد العمل وقلبوا كل أفكاري واعتقاداتي السابقة وهي أنه لا يمكن الحصول على أي وظيفة في وطني إلا بتدخل وساطة قوية .
تمزقت أمامي فزاعة الواسطة وتفتت تماما وأصبحت هباء منثورا .. ونسيت كل غضبي وانطفأ جل إحباطي فجأة ..
وتيقنت تماما دور الرزاق في كتابة الرزق .
وها أنذا حاليا أشغل وظيفة مديرا لفرع البنك منذ سنتين بعد أن حصلت على وظيفة نائب مدير فرع مع الحوافز التي اشترطها عليهم وطلبتها من إدارة البنك .
نعم .. وظيفة البنك ليست بتلك الوظيفة المريحة نفسيا خاصة من الناحية الدينية .. ولكنها مرحلة من مراحل التطور والتقدم والتنمية الوظيفية ..
وأنتظر الأفضل .
يقول الشاب :
هنا تيقنت بأن التوفيق ليس باتصال فلان أو واسطة علان او تدخل الشيخ فلان أو مكالمة من سعادة العضو الفلاني .. أو توصية من المدير الفلاني .
الأمور تجري كما يحددها القدر وكما يخطها النصيب .. وليس كما يرسمها المحسوبيين والمتنفذين.
بالإرادة و الإصرار و السعي والإيمان بقدراتك وقليل من التوفيق وشيء بسيط من الحظ وكثير من الأمل يمكن أن تحقق ما تصبوا إليه وتتمناه .
هذه هي أهم عوامل النجاح .
وهذا لا يعني بأن الواسطة غير موجودة
الواسطة موجودة ومتفشية كسرطان قاتل في كل أجهزة الدولة ومؤسساتها وشركاتها
ولكن يبقى هناك إرادة الله والتي لا تقف أمامها اي إمكانات بشرية مهما كان حجمها ووزنها ..
إرادة الله وتوفيقه فوق أوراق البشر وأعلى من قرارات الورق .
فهو الذي إذا أراد شيئا قال له ( كن فيكون ..)
ونحن وأرزاقنا وحياتنا ومستقبل أولادنا لا نقف على كفوف أصحاب الواسطات ولا نتموضع في أيادي أرباب المحسوبيات ومخططاتهم لا أبدا وإنما يقف مستقبلهم بين حرفين سماويين عظيمين هما الكاف والنون ..
” كن فيكون ” الإلهية هي من تقرر حياتنا ومستقبلنا .
/ عبدالله الفارسي