الحركة غريبة في بيتنا الطيني هذا اليوم. والأغرب في الأمر تزامنها المفاجئ بمرض جدتي. المسكينة أنهكتها الستون محنة وألم. ليلتها تجمع حشد غريب في مجلس بيتنا. ونقلنا أنا وأخوتي إلى غرفة قصية، بعيدة عن المجلس. طلبت منا أمي النوم والتزام الهدوء. وكعادتي لا أرد سؤالا فرض نفسه عليّ. سألتها ماذا هناك؟ ولماذا الطبول معلقة على أكتاف بعض الرجال؟!
رمقتني بنظرة لم أدرك معناها حينها. وقالت ستعرف ولكن ليس الآن.
* * *
تركتنا و شيء من الحيرة تسلل إلى ذاتي الفضولية. حاولت الربط بين الأشياء التي رأيتها والناس الحاضرين. أيعقل أن تقرع الطبول في وقت متأخر كهذا؟! والنار التي أوقدها أبي خلف البيت منذ المغرب ما علاقتها بالموضوع. مرت دقائق حتى ترامت إلى مسمعي أغان وأهازيج ممزوجة بأصوات طبول مجوفة. أن هذا السر يجب أن تنكشف معالمه. أيحتفل الكبار هكذا بعيدا عنا؟!!!
* * *
ألصقت أذني بباب الغرفة. أصغي لصراخ و كلمات صارت تتكرر باستمرار (مجمر, لبان,… ) و غيرها التي لم أفهمها. آه.. و ألم يباغتني في فمي الصغير!. سني المسوس أبى إلا أن يشارك في هذا السر. أحاول أن أضغط عليه بإبهامي لمحاولة خلعه من مكانه لكن اختلاجة من الألم ثنتني. سمعت جلبة في الخارج. عرفت من الصوت إنه صاحب البطن المترهل الذي جاء قبل يومين إلى بينا. أتذكر يدي المتبعة بعد تسعة فناجين من القهوة سكبتها بنفسي إليه.
: إنها مسكونة من زمان
:(تصرف أنت وربعك). ولكن من غير ضرب فهي أمي.
:ما يهمك بينزل الشيوخ وبترجع مثل الخيل تربع.
(مسكونة، ضرب، شيوخ) تزداد حيرتي أكثر. من سكن من؟ ولماذا الضرب في الحفلة؟! ولا أستطيع تخيل شيوخ الحارة بين تلك الثلة من الغريبين.
* * *
قررت اقتلاع السن بكل قوة. أضغط.. أضغط محاولا اجتثاثه. شيء حار أمتزج بلعابي. الألم ارتفعت حدته وامتزج مع إيقاع الطبول المقروعة. مشكلا مقطوعة الألم والحيرة. صراخي لم أطق أن أكتمه أكثر. قررت الخروج، أذرع الدرب الممتد من الغرفة إلى المجلس (الحفلة). أقترب والخوف أحتل جوانبي. أغنية غريبة اجتاحتني (ملعونة وبنت الملاعين وشباكة …). بالطبع لم أفهم أي شيء بحكم سني وعقليتي التي لم تدرك تلك الكلمات الغريبة. يقاطع مروري صوت أبي الذي تنرفز لوجودي، بررت موقفي باحمرار وجهي. بعدها أمسك يدي وجرني وهو يردد (ما ناقص إلا يدخلوك أنته). الحفلة صاخبة، الرؤية ضبابية. وصراخ متبعثر الاتجاهات يملأ المكان. الجدة هناك في منتصف النسوة والإنهاك باد عليها. وضرسي أعلن حربا شرسة، و السائل الأحمر يتدفق بشراهة. ابتلع تلك الدماء الحارة لتمتزج في داخلي.
* * *
في تلك الزاوية كان يترنح كالسكران. وجسده النحيل يضخ زخات العرق المالحة. يقترب من المجمر. فيرتعش جسده. ويصبح الضرب على صدره ذا وقع أقوى. يلتهم الجمر بكلتا يديه، ويمضغه وهو ملتهب. وثغره الملتهب يبتسم من المتعة. آه.. آه الألم بلغ ذروته عندي. أزم شفتي بقوة، ولكن لا جدوى. وهذا النحيل تحول إلى وحش يلتهم النار الحارقة. ألتصق بأبي كالباحث عن الأمان. يحيط بي بيده، وينسحب من تلك الحفلة الغريبة ليوصلني لغرفة النوم، لولا صوت نبح به أحد الغريبين أن تعال الشيخ نزل. تركني لأكمل الطريق وحدي.
* * *
تقدمت بكل خوف. حاولت الركض بكل ما تحمله قدماي من ثقل. النحيل، وفمه الممتلئ جمرا أراه يركض خلفي، وكأني جمرة فرت من مصيرها. أركض … أركض أسقط على وجهي متعثرا بحصاة كانت قد غرست نفسها في الطريق الطويل. استيقظت بعد إغماءة قصيرة، تراب يلطخ وجهي ممتزج بدم حار. تحسست بلساني سني المسوس الذي انخلع من مكانه مخلفا حفرة مقعرة. وقفت على قدماي. نظرت إلى أصحاب الحفلة. طبول حمقاء تقرع. وأغنية غريبة تنساب من بينهم. واصلت طريقي للغرفة. برأس يتفصد ألما. قررت النوم وعدم مشاركة الكبار في حفلاتهم الغريبة، التي لا تجلب سوى الحيرة و الألم…
علي الغافري