ما بين عشرينيات القرن الماضي، وصولاً إلى الأيام الحاضرة، فترة زمنية طويلة، تغيّرت فيها كل دول الخليج، اقتصادياً وكذلك اجتماعياً وثقافياً، ومن ضمن هذا التطور بقيت بعض الأمور محافظة على القديم منها، وتجديدها في إطار الإبقاء على الروح القديمة، كالشعر بصورة عامة، والخليجي بصورة خاصة، الذي يخضع بطبيعة الحال إلى أغراض قديمة تعود إلى زمن الكتابات الجاهلية والإسلامية الأولى كالمديح، الرثاء، الغزل.
تعد الثقافة في الكويت امتداداً للثقافة الإسلامية والعربية بشكل عام وثقافة شبه الجزيرة العربية بشكل خاص. كما أن طبيعة الموقع الجغرافي الخاص بها كان له الأثر الأكبر بجعل المجتمع الكويتي مجتمعاً متفتحاً متقبلاً للثقافات المحيطة به شرط أن تكون محافظة ومتسقة مع عادات وموروث الكويت، خاصة في حركة التجارة من الأحواز والهند والعراق ونجد وكل مكان، كما أن مبدأ التشاور والحوار بين الكويتيين والحكام منذ قيام الدولة جعل من ثقافة الديموقراطية وحرية التعبير أساساً هاماً للثقافة الكويتية، للكويت أيضاً مجموعة كبيرة ومتنوعة من العادات والتقاليد، والتي أدت إلى ثقافة ملونة ومتميزة، وينعكس هذا على سبيل المثال في الديوانية، ولدى شعب الكويت حب خاص للفنون، سواء أكان ذلك للأدب أوالمسرح أوالموسيقى أو الفن المعاصر، وهذا ارتقى نتيجة التطور والتحديث.
وللدخول مباشرةً في صلب الموضوع، اخترت شخصية جدلية، وجدت في الشعر متنفساً لها، خرجت عن المألوف، وانصب الغضب عليها من البعض، وأخلص لها البعض الآخر، شخصية انتقلت من نجد إلى الكويت وعاشت حياتها، عن الشاعر فهد العسكر رحلة اليوم.
لكن قبل سبر أغوار هذا الشاعر الذي هاجر أجداده من نجد واستقروا في دولة الكويت، أوائل القرن الماضي، وكما هو معروف عن أهل الخليج عموماً وأهل نجد على وجه الخصوص وفي كل البلاد التي استقروا فيها، حافظوا على الاعتزاز والكبرياء لأصولهم والمدن التي جاءوا منها بشكل يثير الإعجاب، وكانت حياتهم حافلة بمشاركاتهم الفعالة في القضايا القومية والإسلامية والثقافية، وأهم مزاياهم، السمعة الطيبة والعظيمة للغالبية الساحقة من أهل نجد سواء من حيث الأخلاق العالية والتواضع والشهامة والكرم وكل الأخلاق العربية المعروفة، والكويت كحال سائر الدول، أغلب سكانها قدموا من خلال هجرات وهذا معروف تاريخياً.
فهد العسكر
قلة من الشعراء تكون لهم تلك الكلمة البديعة والقافية الرائعة مع الكثير من الجدل الذي يمكن أن يصاحب عشّاق الحرف، وهذا بالضبط التوصيف الأدق للشاعر الكويتي “فهد العسكر”، ولد الشاعر فهد بن صالح بن محمد بن عبد الله بن علي العسكر، عام 1917م في سكة عنزة في مدينة الكويت، يرجع نسبه إلى قبيلة “عنزة”، وأجداده من “نجد”، درس فهد في المدرسة “المباركية”، أول مدرسة نظامية في الكويت، وتتلمذ على يد أساتذة أجلاّء، منهم الشيخ “عبد الله النوري”، وقد قرأ دواوين الشعر العربي مبكراً، نشأ في أسرة متدينة، حيث كان والده إماماً ومدرس للقرآن، قال الشعر مبكراً، وقد كتب قصيدة مدح فيها الملك “عبد العزيز”، غناها المطرب الكويتي المشهور “عبد اللطيف الكويتي”، بالتالي، هذا الشاعر أحد رواد الشعر العربي بدولة الكويت، حيث استطاع أن يقدم نواة أساسية للشعر العربي بالعديد من البلاد على مستوى الوطن العربي.
الشغف بالشعر
بدأ شغف فهد العسكر بالشعر والأدب منذ تواجده في المدرسة المباركية، حيث قرأ شعر المتنبي وأبو تمام والفرزدق. في بداياته تعلّم على يدي الشاعر الكبير محمود شوقي، ثمَّ وضع نهجه الخاص في كتابة الشعر المعاصر ليكون من أوائل شعراء التنوير في الكويت، كان يقرأ كل ما تقع عليه يده من كتب فلسفية ودينية وسياسية واجتماعية، ما أكسبه مزيداً من الثقافة والانفتاح الذي كان يزداد وضوحه بالتدريج في أشعاره. وبدأ يواجه نظرات المجتمع غير المتقبلة لآرائه وأفكاره، وبالرغم من ذلك لم يرضخ للعادات واستمر بتمرده وكتابة القصائد الناقدة والجريئة، قرر فهد العسكر بعد وفاة والده أن يعيش وحيداً ليتفرغ لكتابة الشعر، وقد كتب قصيدة تعبيراً عن حزنه من والدته، واشتكى فيها من الوحدة والألم يقول فيه:
كفّي الملام وعلليني… الشك أودى باليقينِ… وتناهبت كبدي الشجون… فمن مجيري من شجوني؟
هذه القصيدة وإن كانت قد بدأت من منزله ورفض عائلته الحصول على ميراثه، ربما كعقوبة على خروجه عن التقاليد وعن المألوف بصورة عامة، وهذا يبين أن بساطة المجتمع في تلك الحقبة وضعت حاجزاً بين كل من يخرج عن عباءة المورث، وخلق حالة من اللافهم لمجددين أو غير المألوفين إن جاز التعبير، بالتالي، لم يفهموا مقصده وغايته، وكان سلاحهم محاولات كثيرة لأن يبتعد عن هذا الخط، يقول في قصيدته الشهيرة التي تعبر عن حزنه من والدته:
وأنا السجين بعقر داري… فاسمعي شكوى السجين
بالتالي، من المؤكد إن المبدع يرى إبداعه منذ الطفولة، لكن الظروف المحيطة قد تولد حالة إبداع تتمثل في تطوير المداركو القدرات، فقصيدة (كفي الملام وعلليني)، تحمل من الشجن ما يعجز عنه أي إنسان في التعبير عن فقدان دفء حنان الأم والعائلة التي بدل أن تدعم ابنها وتشد على يديه، تعمل مع المجتمع على محاربته، فقرار عزلة الشاعر فهد العسكر، جاء نتيجة قهر وظلم شديدين أحس بهما ومن مَن من أقرب المقربين له، وهذا أمر يحزن كل من يقرأ سيرة هذا الشاعر الكبير، فكلمات القصيدة كلها آلام حقيقية تؤلم وتحزن كل من يقرأها، في كل زمان ومكان، لأن نبذ العائلة لفرد من أبنائها، هو أقسى ما يمكن أن يتعرض له إنسان على وجهة الأرض.
أماه قد غلب الأسى.. كفي الملام وعلليني.. الله يا أماه فيّ.. ترفّقي لا تعذليني.. أرهقتِ روحي بالعتاب.. فأمسكيه أو ذريني.. أنا شاعر أنا بائس.. أنا مستهام فاعذريني
ما أجملها من كلمات، ما أجمله من شعور، هل هناك أبلغ من علاقة الولد بأمه وهو يعاتبها وحزين لفقدها وهي على قيد الحياة، لا أظن أن أحداً استطاع التوصيف بهذه الدقة إلا الشاعر فهد العسكر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفنان الكبير “شادي الخليج”، عبد العزيز المفرج قد غنّى هذه القصيدة لكن بطابع مغاير لمناسبتها، فهي مليئة بالشجن والحزن بسبب ما حدث بين فهد العسكر وعائلته، لكن غناء هذه القصيدة عكس معناها المقصود كلياً، فهي ليست قصيدة تعبّر عن فرح بل على العكس تماماً يجب أن تُغنّى في سياق الحالة التي كُتبت بها، وكانت لتكون أقرب من الجميع لو أن اللحن تطابق من رؤية الشاعر المعينة التي وضعها في حزنه على ما آلت إليه الأوضاع مع والدته خصوصاً وعائلته على وجه الخصوص، لربما يكون هذا المقال بادرة للملحنين الكويتيين في إعادة تلحينها بما يتسق ومناسبتها الحزينة مع شحن وحزن واضحين.
بالتالي، فهد العسكر الشاعر الكويتي الذي أثار جدلاً كبيراً في الكويت والخليج العربي منذ بداية كتابته للشعر. ويُعتبر واحداً من كبار الشعراء الكويتيين الذين دعوا إلى التجديد والانفتاح على العالم الخارجي، ورغم نشأته في بيئة محافظة تهتم بالأمور الدينية، ساهم ذلك في زيادة حبّه للغة العربية وشغفه بقراءة كتابات أهم الشعراء العرب على مر التاريخ.
فهد العسكر، الشاعر الذي لم تنجب الكويت مثله، والذي سبق عصره بعشرات السنين، لقد كان ضيفاً دائماً على مكتبة “ابن رويخ” منكباً على القراءة في كل الاتجاهات، وهذا أمر من المؤكد أنه وسّع مداركه ونظرته لكل شيء، بالتالي، بدأ الانفتاح يظهر جلياً على قصائده التي أخذت في الانعتاق شيئاً فشيئاً من قيود المجتمع. ونتيجة لذلك بدأ العسكر في الاصطدام مع الناس الذين استنكروا أغراض شعره ومعانيها، ولم يرضخ لتلك النظرة المحيطة به، بل عاش ومات في سبيل قناعاته، والعسكر شاعر يتصف بأنه، له لغة عميقة السبك والحبك، وقصيدته متّقدة ذات شخصية قوية متماسكة تتسم بالتمرد والتفرد، أجاد الوصف والتأوه والشكوى. وهذا فيما يتعلق بأسلوبه من حيث اللغة بعيداً عن الدخول إلى نفق المعيار الديني والأخلاقي الذي يجب أن تخضع فيه القصيدة لدى البعض، وهذا أمر ربما من الممكن تسميته بالتمرد، فقد خرج من من تدين قوي إلى تحرر منطلق من جميع القيود.
يمتاز أسلوب فهد العسكر في مجمله بالعاطفة المتقدة، لكن برز أيضاً في جانب آخر حمل أوضاع الأمة العربية، حيث تناول أوضاع الوطن العربي في وقته، وذلك من خلال قصيدة معبرة يقول فيها: (طلع الفجر غنِّ ياقمرية.. واطربي الروح بالأغاني الشجية)، فقد تجلى مشروع العسكر التنويري في الدعوة إلى الوحدة القومية والإخاء بين أبناء المجتمع وطرح أبعاداً للتنوير في عدد من المجالات أبرزها التعليم، قبل ذلك، وعند الحديث عن فهد العسكر فإن مسيرته الشعرية بلا شك ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحركة الأدبية التي شهدتها البلاد في تلك الفترة فقد كانت الكويت ولمدة زمنية طويلة مركزاً إشعاعياً يمد الثقافة العربية ويعزز من مكانتها، وترجع بدايات الحركة الأدبية والثقافية في الكويت إلى فترة حكم الشيخ مبارك الصباح التي توجت بتأسيس المدرسة المباركية والجمعية الخيرية ثم تطورت في عهد الشيخ أحمد الجابر، وفي فترة ما قبل الاستقلال ازداد نشاط الحركة الثقافية مع تأسيس المكتبة الأهلية والنادي الأدبي ويعود الفضل في تشجيع تلك النشاطات إلى شباب الكويت آنذاك إذ كانوا على اتصال دائم بالمجالات الأدبية في الوطن العربي، وخلال تلك الفترة انقسمت الحركة الأدبية في الكويت بتصنيف تقليدي يبدأ ويتوقف عند أحداث سياسية محلية وعالمية كبرى، إذ بدأت الحركة الأدبية مع تأسيس الإمارة وانتهت بإعلان الحرب العالمية الأولى وكانت مرحلة جمود وركود للأدب والفكر بسبب انتشار الأمية وعدم الاستقرار، ومع نهاية الربع الأول من القرن العشرين انطلقت المرحلة الثانية للحركة الأدبية فقد عرفت الندوات في النوادي الأدبية وانتشرت المكتبات العامة والخاصة والنوادي المهنية وبدأ العرب يفدون إلى الكويت ويخالطون أدباءها، إن الأدب في المراحل التي سبقت ظهور النفط كان تقليدياً تحكمه الأفكار الاجتماعية والدينية المتوارثة كما أن هموم الأدباء والمفكرين محدودة بفضائهم المحلي، وهذا أمر طبيعي أغلب المجتمعات عاشته قبل مسيرة التطور والتحديث.
ثورة شعرية
يبدو أن الخروج عن المألوف حالة لا تحدث إلا للمميزين في أي مجالٍ كان، وفي حالة فهد العسكر، فقد تمرد على هذا الواقع في زمن مبكر، حتى قبل وفاة والده، إنه شاعر لم يتأثر سوى بنفسه، استطاع أن يهرب من حياته المأساوية إلى الخيال الذي أبدع من خلاله وكتب باستخدامه قصائد من أجناس مختلفة، فلم يغره عرض الملك السعودي حين امتدحه، ليترك الرياض ويعود إلى الكويت، رغم أن أصوله نجدية، لكن لم يستطع أن يألف الصحراء، وعاد إلى البلد الذي يحب، ولربما لا يوجد جحيم أكبر من ذلك الذي يخلقه المبدع لنفسه، لأنه بكل بساطة يملك وعياً كبيراً قد لا يتسع له، وللمكان والزمان اللذين يعيشهما، لذا تمثل شخصية الشاعر فهد العسكر جزءاً كبيراً من مأساته التي عاشها، ومسبباً للقصائد التي كتبها بمشاعر مختلطة بين الغربة والعزلة والرفض والوحدة، لذا فإن الحديث عن شخصية العسكر يبدو الأكثر صعوبة، لكنه كان بريئاً من اتهامات مجتمعه، اتهموه بالإلحاد (وما كفر فكفروه) واتهموه بالتعامل مع القنصل البريطاني وهو بريء من هذا الاتهام، ليخرج رداً عليهم بقصيدته الرائعة:
وطني وما أقسى الحياة به على الحر الأمين.. وألذ بين ربوعه من عيشتي كأس المنون.. ما راع مثل الليث يؤسر وابن آوى في العرين
هذا يعني وفي كل زمان، هناك فئات تحارب المميزين، في الدين وفي العلم وفي الشعر وفي الفن، هي غيرة متوارثة، واتهامات حتى وإن أودت بالشخص البريء إلى التهلكة، ليكون الطبع قد غلب التطبع، إن العسكر مثّل تغير الحياة في الكويت وحالة التجديد التي كانت جديدة على المجتمع، ليمثل بذلك الفترة الانتقالية في مواجهة التقاليد والأعراف، وليتهم العسكر بالانحلال والإلحاد بسبب الفهم الخاطئ والمباشر لقصائده التي تدافع عن المرأة، وتدعو إلى ثورة ضد التقاليد التي تستعبد الإنسان، فمثلاً كان من الرافضين لزواج القاصرات، فمن الناحية الدينية هو أمر شرعي، لكن من الناحية الإنسانية هو أمر مؤلم وموجع في تزويج كفلة لرجل مسن على سبيل المثال، من هذا المنطلق كانت ثورته نحو التغيير.
ويقال إنه شارك بقصيدة في مسابقة أجرتها الإذاعة البريطانية”هنا لندن” للشعراء العرب وحددت مضمونها، ففاز بالمركز الأول رغم مشاركة فطاحل الشعراء العرب منهم الرصافي وحافظ ابراهيم وعشرات غيرهما، وأقام المندوب السامي البريطاني مهرجاناً بمدرسة المباركية لتسليم الجائزة الأولى لفهد العسكر، لكنه أرسل مع أحد أصدقائه قصيدة يقدح ويذم سياسة بريطانيا في الدول العربية والتي ألقاها أمام الحضور ما أحرج المندوب البريطاني ومن معه..وكان قد رفض الجائزة، فهذا أكبر دليل على وطنيته المتقدة، فعلاً (ما كفر وكفروه)، لكن كما أشرت خروجه عن المألوف في مجتمع محافظ كان سبباً في معاناته.
على المقلب الآخر، فهم بعد فوات الأوان أنه لم يكن إلا مسلماً مخلصاً لدينه، وقصيدته المشهورة في عيد المولد النبوي خير دليل، يقول فيها:
كفكف بربك دمعك الهتانا.. وافرح وهنيء قلبك الولهانا.. بشراك ذا يوم الولادة قد أتى.. فعساه يوقظ روحك الوسنانا.. أو ما رأيت صفاءه وبهاءه.. وجلاله وجماله الفتانا ؟؟.. قم يا أخا الشوق الملح وحيّه.. وانثر عليه الورد والريحانا.. يا فجر يوم ولادة الهادي أطل.. على النفوس، وبدد الأشجانا
في قصيدة أخرى لفهد العسكر طويلة عدد أبياتها اثنان وتسعون بيتاً بعنوان (مناجاة العيد)، يناجي فيها شاعرنا عيد مولد النبي صلى الله عليه وسلم ويتحسر فيها على ما وصلت إليه الأمة الإسلامية من تأخر وتشرذم جراء إهمالها شرع الله المحكم، يقول فيها:
وَيْــلاهُ اهمَلْنا التَّعاليمَ التي.. جَاءَ الكتابُ بها فمَا أَشْقانا.. ما أَنْ تركْنا البرّ والتَّقْوى معاً.. حتى أَلفْنا الإثْــمَ والعُدْوانا.. نَعْصى أَوامرَ كلَّ فَـرْدٍ مُصْلح.. والدينُ عنْ عِصْيانه ينْهانا
يُقال أيضاً، أن علاقة صداقة كانت قد جمعته مع شاعر العراق الكبير معروف الرصافي، وتبادل الصديقان الرسائل، إذ كانت أشعار فهد العسكر تنشر في مجلات عراقية وبحرينية، حينها، لكن ومع شديد الأسف لا يوجد أثر لهذه الرسائل، وهذا برسم محبيه أن يقوموا بالبحث عنها وإحيائها إكراماً لشاعر الكويت الأول الذي لا يقل أهمية عن كبار الشعراء كأحمد شوقي وحافظ ابراهيم وغيرهما، لولا أنه ظلم.
من هنا، إن الشاعر فهد العسكر الذي أحرق شعره لأن كلماته لم تلق القبول لدى المجتمع الكويتي ولدى عائلته، لكنه ثبت على فكره وتشبّت به إلى أن وجد نفسه في عزلة شبه كاملة عن مجتمعه، وعلى إثر الظروف السابقة ونظرة المجتمع له، قرر هو اعتزال الناس، وبعد وفاته حرق أقاربه جميع مؤلفاته وأشعاره ولم يبقى منها إلا ما حفظه أصدقائه ومحبيه، حيث جمعها الشاعر عبدالله زكريا الأنصاري الذي نشر في عام 1956 كتاباً يتحدث عن السيرة الذاتية للشاعر فهد العسكر، من خلال جمع ما تبقى من الأشعار التي تمكن من الحصول عليها، سواء من المسودات المتبقية أو من صدور أصدقاءه.
بالتالي، عاش شاعرنا حياة كئيبة بائسة بسبب أفكاره فقد كان الشعر المتنفس الوحيد له، فلم يفرح الشاعر بأية ديوان شعري طيلة حياته، إلى أن أصيب في عينيه، فاشتد ألمه، عانى أشد المعاناة وأقساها، وانزوى في غرفة صغيرة قريباً من سوق شعبي في الكويت يسمى (سوق واجف) فأضحى رهين ذلك المحبس، حتى كفّ بصره فغدى رهين محبس آخر هو العمى، كالمعري (رهين المحبسين)، حتى انهار فنقله أخوه إلى بيته حتى أسلم الروح، ولم يصلِّ عليه إلا الشيخ عثمان عيسى العصفور وثلاثة من المهرة ورجل خامس لم يعرف، ودفن في المقبرة العامة بجانب قصر نايف، ليغادر هذا العالم عام (1951).
كلمات العسكر بعثت من جديد، حيث أنشأت مؤسسة عبد العزيز سعود للإبداع الشعري جائزة شعرية عام 2001 وتحمل اسم الشاعر فهد العسكر، وقام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت بإصدار كتاب بعنوان (منارات ثقافية كويتية) اشتمل على دراسة لثلاثة من شعراء الكويت منها دراسة بعنوان (فهد العسكر والمرأة) ثم قامت وزارة المواصلات في العام 2009 بإصدار عدداً من الطوابع البريدية، تحمل إسمه تخليداً لذكراه ولكلماته وكذلك أنتج ثلاثية تلفزيونية توثّق حياة الشاعر العسكر عام 1979.
بالنتيجة، وبعيداً عن الحياة الشخصية لأي قامة وطنية كانت سواء في الكويت أو في أي بلد آخر، يبقى هذا الأمر مرتبطاً بالشخص نفسه، ولسنا أنبياء ولا قديسين لكي نحاكم الناس على أمور تتعلق بخالق السموات والأرض، وسواء كان للشاعر محبين أو لا يزال له مبغضين، هذا أمر يبقى ويجب أن يكون في إطار احترام الحرية الشخصية لأي إنسان، إنما وقع اختياري عليه من الناحية الأدبية والثقافية، ومن ناحية الذائقة الشعرية والتنبه لها متأخراً، فلو كان هناك اهتماماً لكان لدينا أميراً في الشعر يضاهي أكبر الأسماء، نعم لقد كان فهد العسكر مختلفاً ولعل هذا الأمر أهم ميزة له، لكن عرفوا قدره بعد رحيله، لذا له علينا حق تعويضه أدبياً من خلال البحث عن قصائده المنشورة في العراق وفي البحرين، والبحث عن رسائله مع الشاعر معروف الرصافي، لعل وعسى أن نصل إليهم بطريقة أو بأخرى، لأنه مهما كان يبقى منارة أشرقت ضياءً من سماء وطني الكويت.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.