(فاقرأ الآن معي تاريخك بعينٍ عربية بصيرة لا تغفل، لا بعينٍ أوروبية تخالطها نخوة وطنية).
شخصية فريدة شكلت ظاهرة خاصة في القرن العشرين، اتبعت طريقة خاصة في فك أعقد كتب التراث، لها فكر متوهج، لها من الثقافة ما جعلها تتربع على عرش الثقافة العربية كلها، عن العلامة الشيخ محمود محمد شاكر من الأشراف في صعيد مصر نكتب.
(وشيئاً فشيئاً انفتح لي الباب على مصراعيه، فرأيت عجباً من العجب، وعثرت يومئذ على فيض غزير من مساجلات صامتة خفية كالهمس، ومساجلات ناطقة جهيرة الصوت، غير أن جميعها إبانة صادقة عن الأنفس والعقول).
شيخ المحققين، محمود شاكر، الشيخ العلم الأستاذ، رائد من رواد تحقيق التراث العربي الإسلامي، أمضى حياته في رحلة علمية طويلة وعطاء فياض لخدمة الإسلام والدفاع عن أصوله ومبادئه والوقوف أمام تيارات الحداثة والتغريب والرد على أذناب التنوير المزعوم، التنوير الذي يُراد منه هدم نور الإسلام الذي أشرق ضياءً على الأمة الإسلامية.
تألق اسم الأستاذ محمود محمد شاكر في سماء الأدب العربي باعتباره أديباً شاباً في فترة الثلاثينات والأربعينات إلى بداية الخمسينات من القرن العشرين، حيث توقف لفترة عن الكتابة لينصرف إلى تحقيق العديد من أمهات كتب التراث العربي والإسلامي.
قال عنه الأستاذ الكبير عبد السلام هارون، (عبقري بارع، قلّ أن يجود الزمان بمثله).
من روائع شيخ المحققين محمود شاكر، (ولو قد يسَّرَ الله لكل شاعر أو كاتب أو عالم صديقاً وفيّاً ينقله إلى الناس أحاديث وأخباراً وأعمالاً – كما يسَّر الله للرافعي – لما أضلّت العربية مجد أدبائها وعلمائها، ولما تفلّت من أدبها علم أسرار الأساليب، وعلم وجوه المعاني التي تعتلج في النفوس وترتكض في القلوب حتى يُؤذن لها أن تكون أدباً يُصطفى وعلماً يتوارث).
لقد كان المحقق الكبير محمود شاكر صاحب بيانٍ لا يُجارى في دنيا الأدب، وأسلوب لا يُبارى في دنيا الكتابة، تقرأ له فتسمو نفسك وتعلو مشاعرك حتى تكاد تلامس نجوم السماء، يأسرك أسلوبه الجزل، ويروعك تركيب جمله وعباراته، ويبهرك روعة استشهاده وحسن تأتِّيه، ويخلبك تخيُّره لمفرداته وانتقاؤه لكلماته، وإذا وقع الاختيار منه على كلمة غريبة أو غير مألوفة، لم يدعها حتى يشرحها، فإذا ما شرحها استبان لك أنَّ كل مرادفاتها التي قد تخطر في البال لا يمكن أن تفيَ بمعناها، أو أن تحِل محلَّها في بنيان ذلك التركيب.
وهذا طبيعي فهو القارئ الفهم، والمتذوق الحصيف، والناقد المتبصِّر لإبداعات العرب في شتى فنون الفكر والتاريخ والأدب ولاسيما الشعر، نشأ مشغوفاً بالشعر، منهوماً بالأدب، كلفاً بالتاريخ، وسلخ شبابه يعمل في العربية حتى أمكنته اللغة من قيادها وألقت إليه بأسرارها.
وكان العلامة شاكر المحقق الثبت الذي لا يُشقّ له غبار، بل كان شيخ المحققين كما نعته كثير من علماء عصره، وما أجمل ما وصفه به الأستاذ عباس محمود العقاد حين قال: (هو على رأس المحققين لأنه أديب فنّان)، أخرج لقراء التراث أسفاراً لا يقوى عليها إلا أمثاله من فحول التحقيق، من أشهرها (طبقات فحول الشعراء) لابن سلاّم في جزأين كبيرين، و(تفسير الطبري) الذي حقق منه ستة عشر جزءاً في كل منها علم غزير هو علم الأوائل الفحول، و(دلائل الإعجاز) للجرجاني في مجلد ضخم ألحق به (الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز وأسرار البلاغة) للجرجاني أيضاً، و(تهذيب الآثار) للطبري، و(جمهرة نسب قريش وأخبارها) للزبير بن بكّار.
كان في التحقيق أمّة وحده، لم يرتض أن يوصف بالمحقّق وإنما أصرّ على أن يضع على أغلفة ما أخرجه من كتب التراث: (قرأه وشرحه) وكأن في هذه العبارة الحدَّ الفاصل بين طبيعة عمله وطبيعة عمل غيره من أعلام التحقيق. وهنا قمة التواضع وهذا ما يجب أن يكون، مهما علا شأن الإنسان، يبقى متواضعاً لا تغره الحياة الدنيا ولا ألقابها أو مناصبها طالما وضع الوطن والإنسانية نصب عينيه، وبدقة أكثر هذا هو التنوير الحقيقي الذي يُضفي ويزيد نور الإسلام ضياء.
هذه الشخصية الفذة ستطلق لها الشرح المستفيض لننهل منها لا أن نتحدث عنها، لنفيد ونستفيد، لأنها مدرسة متكاملة البنيان المتين، وإلا ما عاشت بيننا إلى يومنا هذا.
العالم الموسوعي محمود شاكر الذي نُشرت أمامه العربية كلُّها فراح يعُبُّ منها ويرفدنا بسيل من المعارف، ففي آثاره ما شئت من فقه باللغة، وبصرٍ بالعربية، وتذوّق للشعر، ومعرفة بالتفسير، ودراية بالحديث، ورواية للأخبار، وتتبُّع للآثار، وحفظ للشواهد، وتمثّل للتاريخ، وتحليل لوقائعه تحليلاً لا يرقى إليه نوابغ المختصين فيه. وإلى هذا كله ذهن لمّاح، وبصر حديد نافذ. وحسن مواتاة أوفى فيه على الغاية، وصار مضرب المثل.. في بحثٍ قريب.
د. عبد العزيز بدر القطان.