لم يكن الكاتب الفلسطيني توفيق أبو شومر بعيدًا عن الواقع، عندما كتب مقالا بعنوان “المُضحكات المُبكيات في قاعة الكنيست”. ففعلا هناك مُضحكات ومُبكيات في آن واحد؛ وأكثرُ المضحكات هي التي أشار إليها أبو شومر عن الصراع حول ميزانية إسرائيل للعام القادم 2022 في الكنيست، إذ تضمن أحد بنود الميزانية المقترح “تخصيص اثني عشر مليون شيكل خلال عامين، لمشروع إخصاء القطط والكلاب الضالة، أي تعقيمها حتى لا تُنجب”، وهو المشروع الذي قدّمتْه ياسمين فردمان عضو حزب “هناك مستقبل”، كشرط لموافقة حزبها على الموازنة العامة، التي نوقشت في الأول من نوفمبر الحالي.
الغريب في الأمر أنّ مقترح تعقيم الكلاب والقطط طُرح في الكنيست رحمةً بهذه الحيوانات الضالة بدلا من قتلها؛ فاليهود المتدينون يمنعون منعًا باتًا اقتناء الكلاب؛ وهناك فتوى في الشريعة الدينية من اثني عشر حاخامًا في مستوطنة “إلعاد” الأصولية، يحرمون اقتناء الكلاب، وفق نصٍّ ديني نقله توفيق أبو شومر يقول: “كلُّ مَن يقتني كلبًا فهو ملعونٌ”؛ لذا رأى هؤلاء الأعضاء أنّ هذا التعقيم والخصي أمرٌ ضروري لتجنيب الحيوانات الضالة الموت جوعًا، وإيذاء الآخرين، خاصةً أنّ أعضاء جمعيات رعاية وحماية الحيوانات يؤمنون بأنّ عملية الإخصاء ضرورية للرفق بالحيوان. ولكن إذا كان أعضاء الكنيست “رحيمين” إلى هذه الدرجة بالحيوانات، فماذا عن البشر الفلسطينيين؟!
عانى الفلسطينيون من القتل والتشريد والاضطهاد العِرقي والديني، وحُرموا من أبسط حقوقهم الإنسانية، ومورست ضدهم أبشع أنواع التمييز في الأنظمة والقوانين التي أقرها الكنيست، ودائمًا تُهدم منازلهم مع فرض إجراءات قسرية، تسبّبت بنزوح المئات، وقيّدت حرية تنقلهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلال نقاط التفتيش وحواجز الطرق، ودائمًا نقرأ عن اعتقالات السلطات الإسرائيلية تعسفيًا للفلسطينيين، دون تهمة أو محاكمة؛ ويتعرض المحتجزون – ومن بينهم أطفال – للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة، مع إفلات مرتكبيها من العقاب، بما معناه أنّ الكلاب والقطط “مرحومة” عند هؤلاء القوم أكثر من البشر الفلسطينيين.
لندع موضوع الكلاب والقطط جانبًا، ونتحوّل إلى موضوع آخر من مضحكات ومبكيات الكنيست الإسرائيلي، وهو موضوع فعلا محيِّر وليس لديّ تفسير له إلا التأكيد بأنّ “هناك ملكيين أكثر من الملك”.
الموضوع يتلخص في أنّ يريف ليفين عضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب “الليكود”، قدّم مقترحًا لإلزام تعليم اللغة العربية في المدارس الإسرائيلية، إلا أنّ نوابًا من القائمة العربية الموحدة (الحركة الإسلامية) صوّتوا ضد المشروع المقترح، في ظاهرة تصعب على الفهم. وقد انتقد ليفين موقف الأعضاء العرب لتصويتهم ضد المشروع، وتحدّث باللغة العربية – حسب فيديو انتشر كثيرًا – من منبر الكنيست قائلا: “ليست هناك حركة إسلامية في العالم تصوّت ضد اللغة العربية.. ضد لغة القرآن الكريم. الكرسي أهمّ من اللغة العربية، أنتم حركة إسلامية أم حركة كرسية؟”. وواصل قائلا: “كلّ المسلمين في الدولة لازم يعرفوا، أنّ الحركة الإسلامية ضد اللغة العربية.. عيب عليكم”. وأضاف مخاطبًا أعضاء الكنيست عن نواب الحركة الإسلامية: “انظروا كيف يخجلون.. انظروا”.
وبحسب مراقبين فإنّ ليفين لم يهاجم الكتلة الإسلامية حبًا في اللغة العربية؛ فهو قد صوّت أصلا لصالح قانون “القومية” العنصري، ولكن هي محاولة منه لضرب الحكومة الإسرائيلية، ولكشف وفضح القائمة العربية الموحدة التي تضم نوابًا إسلاميين مشارِكين في ائتلاف الحكم، إذ قدّم أعضاء القائمة مصلحتهم الشخصية على المصلحة العامة.
أثار مقطع الفيديو الكثير من الجدل والتساؤلات عن دوافع هذا التصويت، ممّا دعا القائمة العربية إلى إصدار بيان توضيحي، قالت فيه إنّ طرح حزب الليكود بزعامة رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو، لقانون كان يعارضه “ليس حرصًا على اللغة العربية، بقدر ما هو محاولة لتفكيك الائتلاف الحكومي، وأنّ الليكود يسعى إلى تأليب الناخبين العرب ضد نوابهم”. أما عن مبرراتها لعدم التصويت لصالح القانون، فقد ذكرت أنها “ملتزمة بالقرارات الائتلافية القاضية، بإسقاط اقتراحات قوانين المعارضة”.
وإذا كان موقف الكتلة العربية الموحدة في الكنيست موقفًا مستغربًا، فإنّ من يتابع تصريحات بعض أعضاء هذه الكتلة سينتفي منه الاستغراب، حيث سبق للعضو وليد طه الذي صوّت ضد قرار تدريس اللغة العربية في مدارس الداخل الفلسطيني، أن صرّح في شهر سبتمبر الماضي أنّ “أيّ عدوان على غزة، لن يهدد استقرار حكومة الاحتلال الإسرائيلية، وأنّ حزبه لن يغادر الحكومة وسيبقى فيها”، ممّا دعا حركة حماس أن تدين تلك التصريحات، وتصفها على لسان عبد اللطيف القانوع الناطق باسم الحركة أنها “تمثل سقوطًا وطنيًا وقيميًا، وانسلاخًا عن الهوية الفلسطينية العربية، ولا تخدم إلا أهداف الاحتلال الصهيوني، التي تعمل على تمزيق وحدة شعبنا ومكوناته الوطنية والنيل من صموده”.
وينتقد عادل شديد المحلل السياسي المختص بالشأن الإسرائيلي والمحاضر بالجامعة العبرية في القدس، مشاركة حزب القائمة العربية الموحدة، في الحكومة الإسرائيلية، ويراها “خدمةً للحركة الصهيونية، ويحوّل القضية الفلسطينية من وطنية سياسية، إلى مجرد قضايا حياتية ومعيشية للسكان العرب”. ويرى أنّ تصويت القائمة العربية ضد قانون اللغة العربية “منسجم مع البرنامج المتفق عليه عند تشكيل الحكومة، والذي يقول: القضايا السياسية تترك لرئاسة الحكومة، وما يقدمه نيفتالي بينيت مقبول بالنسبة لهم”. ويذهب أبعد من ذلك عندما يضيف: “هكذا جرى الاعتراف بعد 73 عامًا بالرواية الصهيونية، وأنه لا حقوق سياسية للعرب، ولا علاقة لهم بما يجري في القدس والضفة وغزة، إنما يبحثون فقط عن قضايا حياتية وخدماتية”.
حقيقة فإنّ أمام الأعضاء العرب في الكنيست الإسرائيلي تحديات كبيرة؛ ولكن مهما يكن من أمر فلا ينبغي أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك، بسبب التمسك بائتلاف الحكم، لأنّ مشاركة الأحزاب العربية في الحكم لم تفد الفلسطينيين في شيء، فيكفي أنّ هناك “أكثر من 55 قانونًا في إسرائيل تميّز ضد المواطنين العرب الفلسطينيين، وتقيّد حريتهم في التعبير السياسي وفي المشاركة السياسية” حسب المركز القانوني غير الحكومي لحقوق الأقلية العربية في الكيان الإسرائيلي.
وبحسب الشيخ رائد صلاح المعارض للمشاركة في الكنيست، سيكون من الأجدر بالنواب العرب “أن يستقيلوا من الكنيست، كي يكشفوا القناع المزيّف الذي تتستّر به إسرائيل لتمويه ديموقراطيتها العنصرية المزعومة، التي لم تقدّم للأقلية العربية إلّا الفتات القليل”؛ وبالتالي فالأعضاء العرب -حسب رؤيته – هم مجرد ديكور صوري، بعد أن عجزوا عن تحقيق أيّ تقدم مجدٍ وملموس للأقلية العربية في الداخل؛ وإسرائيلُ تستعملهم لتزيّن “ديموقراطيتها” في الغرب.
تاريخيًا كانت الأحزاب العربية حريصة جدًا على عدم التعاطي الإيجابي مع أي حكومة إسرائيلية – إلا في حالات نادرة – كونها صهيونية لا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني وترفض إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، لكنّ القائمة العربية الموحدة كسرت هذه القاعدة، ومن المُضحكات المُبكيات أنها تمثل “التيار الإسلامي”!.
بقلم: زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان. عدد الأثنين 22 نوفمبر 2021م