في ذكرى عيد المولد النبوي المبارك، نبدأ الكلام بأحر وأطيب التبريكات للأمتين العربية والإسلامية، وفي هذه المناسبة العظيمة والتي تزامنت مع الإساءة الفرنسية، نسأل الله الهداية للجميع.
عَودٌ على بدء
في ذكرى المولد النبوي، أطيب المباركات هي العودة إلى سيرته العطرة، وما تحويه وأهمها، خُلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشمائله المحمدية، بالقراءة وحضور المقاطع والأفلام والمسلسلات التي تتحدث عن سيرته المباركة وهي كثيرة، من قصص القرآن، إلى الأنبياء في القرآن، والرسول في القرآن، وأصحاب النبي، وغير ذلك الكثير، فالجميع يستطيع مشاهدتها حتى وإن إستندت إلى رواية ضعيفة، لا بأس في ذلك، طالما أن الأساس هو سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، نحتاج الرجوع لها.
وجميعنا يعلم أن الناس جُبلت على الجمال، والسرد الأدبي لإيصال المضمون المقصود خير وسيلة خاصة فيما يتعلق بالسير النبوية الشريفة في هذه الظروف الإستثنائية والحملة الغربية على الدين المحمدي، بعيداً عن الأسلوب الأكاديمي، الذي يهتم فيه ذوي الإختصاص والشأن، فنلاحظ أن هناك إهتمام بجماليات الرواية أكثر منه بالأسانيد، بل يجب أن نكتب بروح العصر وجماليته مع الإبقاء على الأسس والتعاليم الأساسية في طرح أي موضوع ديني خاصة ما يتعلق بالأنبياء والدين الإسلامي بشكل مخصص، فاليوم عصر الصورة والألوان، فلندمج العلم بالصور الجمالية التي تثري مقالاتنا وكتبنا وقصصنا.
التغريد خارج السرب
ولا ننكر أن الطرق القديمة في طرح السير النبوية كانت في زمانها رائجة، لكن في زماننا تحتاج إلى دمج عراقة الماضي بالتطور الحاصل لأن العملية أصبحت مكررة وأصبح هناك نوعاً من الإستنساخ ولكن بتحقيقات مبسطة لغوياً من خلال إستخدام الوسائل الحديثة، ولا ننسى، أن هناك اليوم الكثير من التحريف والتزييف، وحتى تكفير الآخر، والقتل بإسم الدين، والإنتقام لكل من أراد تغيير اللون القديم وتعديله بواقع عصر اليوم، إذ يخصصون مساحات وفضاءات وإعلام للتشهير والتكفير، تحت حجة التزمت بآراء، تحتاج إلى نقاش لتصويب المخطئ، وإقناعه لا تكفيره وهدر دمه، وجعله حبيس منزله، فقط لأنه نقد طرائق معينة لولا أنها خطأ لما ثارت ثائرتهم على كل من يحاول نقد هذا الأسلوب، خاصة وأنه تكلم خارج الصندوق معتمداً على أدوات بحثية جديدة وقراءة جديدة ويكسر المألوف من خلال طرح دراسة منطقية وعقلانية في هذا الزمن، لكن مع إصرار البعض على الطريقة القديمة ونصبغها بصباغ الكهنوت (الذي لا وجود له بالإسلام)، فهنا تكمن المشكلة، وبالتالي تقوم القائمة عليه، فالخطاب الإسلامي اليوم، عاجز عن الردود العلمية والفكرية وحتى الردود على الشبهات غلاة العلمانيين والليبراليين والملاحدة أيضاً، فإستنساخ التجارب ليس بعلم أبداً، إنما العلم هو أن تبدأ من حيث إنتهى الآخرون، وبالمناسبة، هذه أحد اهم الثغرات التي جعلت من الدين الإسلامي عرضة للتطاول من قبل الغرب الملحد.
ثناء رائع
بالنسبة لي، إن أفضل ما كُتب عن النبي هو ما جاء في القرآن الكريم، وخصوصاً “سورة الضحى”، التي تتكلم عن أخلاق النبي بصورة رائعة، وتتكلم عن يُتمه، وعن حياته وخُلقه، { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى* وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى* وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى* أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى* فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ* وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
وعندما تقرأ الكتاب الكريم، وتقرأ ثناء الله تبارك وتعالى على حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيه الكثير من الإضاءات الجميلة والمشرقة التي تغنيك عن كل الكتب الأخرى، لكن لا ضير من القصص والروايات الأخرى، لإشباع رغبة كل محب لحضرة النبي المصطفى، فالكثير حسب إعتقادي من الكتّاب والمفكرين الكبار في فترة من الفترات، تأثروا بسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكتبوا بأساليب أدبية، في فترة الخمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت الراوية طاغية في العالم العربي، فعلى سبيل المثال الأديب الكبير، توفيق الحكيم، الروائي العظيم، كتب في السيرة المحمدية بأسلوب جميل جداً، ويقول لم آتِ بجديد، كل التفاصيل كانت موجودة في الكتب القديمة، لكن تميزت بأن كتبتها بأسلوبٍ أدبي، وهناك جزء كبير من الناس يحبون الطريقة الأدبية.
روحانية الأدب
أيضاً، الأستاذ الكبير والمبدع، عبد الرحمن الشرقاوي، كاتب فيلم “الرسالة، له كتاب “عليّ إمام المتقين”، و”الحسين ثائراً”، و”الحسين شهيداً”، وله عشرات الكتب الأخرى ومسرحيات له من إخراج جلال الشرقاوي، فالكاتب الشرقاوي له كتاب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكاتب محمد حسني هيكل أيضاً كتب عن السيرة المحمدية بأسلوب جميل.
أيضاً نعرج على كتاب الربيع الأول للكاتب وضاح خنفر، في قراءة سياسية وإستراتيجية في السيرة النبوية، طبعة العام الحالي “2020”، فأنت تقرأ السيرة النبوية بشكلٍ معاصر، هذا ما نحتاجه إليه اليوم، لأننا مقصرين بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأيضاً الأستاذ عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، عندما تقرأ عن زيارته الأخيرة للحجاز بدعوة من المملكة العربية السعودية، التي تحدث عنها الدكتور محمد عمارة، فلقد زار طه حسين أدباء الحجاز والملك، وبالطبع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، أدى فريضة الحج والعمرة، فالروحانية بكلامه وهو الرجل “الأعمى” أكثر من رائعة، لكن البصيرة التي تحدث فيها عندما صعد جبل عرفات وزار جبل أحد، أو عندما أخذ حفنة من التراب وشمّ فيها عبق التاريخ الإسلامي في تلك البقعة المباركة، إستشعر التاريخ وجبل الرماة (شمال المسجد النبوي)، قرب المدينة المنورة، وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا الطريق سار النبي، هذا الشعور الرائع، من رجل أعمى البصر، لكن بصيرته أوصلت لوحات رائعة عن حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خصوصاً في آخر أيام عميد الأدب العربي.
على الهامش
في كتاب “على هامش السيرة”، يقول طه حسين، بأنه في هذا الكتاب لم يأتِ بجديد، وترى ما فيه موجود في كتاب طبقات بن سعد وتاريخ الطبري وسيرة بني هاشم، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتاب التاريخية، وما ميّز طه حسين، طريقته الأدبية في سرده للمضمون الأدبي الجميل والرزين، حتى لو تمعنّا في العنوان “على هامش السيرة” تم إقتباسه من كتاب الكاتب الفرنسي جوملت “على هامش الكتب” في القرن التاسع عشر.
إبداع
يقول طه حسين في مقدمة كتابه “على هامش السيرة”: (هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين لأني لم أرد بها إلي العلم، ولم أقصد بها إلي التاريخ وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قرائتي للسيرة فأثبتها مسرعاً ثم لم أر بنشرها بأساً، ولعلي رأيت في نشرها شيئاً من الخير، وأحب أن يعلم الناس أيضاً أني وسعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأساً، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين، فإني لم أبح لنفسي في ذلك حرية ولاسعة، وإنما التزمت ما ألتزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية، وعلماء الدين، ولن يتعب الذين يريدون أن يردوا في أصول هذا الكتاب القديم في جوهره وأصله، الجديد في صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التي أخذ منها).
ويعتبر طه حسين كتاب على هامش السيرة من أحب الكتب إلى قلبه، إضافة إلى كتاب الوعد الصادق، وكتاب مرآة الإسلام، القطعة الأدبية الجميلة جداً، وكتاب الشيخين، وكتاب الفتنة الكبرى، فمن يمتلك ذائقة أدبية وشعرية وحسيّة، من المؤكد أنه وجد ضالته في كتب العميد طه حسين، والدكتور عبد الرحمن الشرقاوي وتوفيق الحكيم، وغيرهم من العظماء، سيشعر أنه في عالمٍ آخر، فيهم من البلاغة والفصاحة والقوة والثقة الكثير، دون أن نغفل بأن طه حسين هو رائد من رواد الأدب العربي الحديث والحركات التنويرية العربية، فعندما تقرأ كتابه ” الأيام” وبإجماع عالمي بأنه أفضل كتاب سيرة ذاتية لن تجد مثله لو قرأت كتب السير الذاتية لكل الكتّاب والزعماء حول العالم.
هجمة شرسة
ففي ظل هذه الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين، فأفضل إحتفال بعيد المولد النبوي اليوم، أن نقرأ السيرة النبوية ونعرضها صوتاً وصورة، كتباً وقصصاً، فهي فخرنا، ليجتمع الآباء مع أبنائهم ويقرأونها لهم، أو الأجداد، أو الأصدقاء، والمسلسلات كأعمال الرائع يحيى الفخراني، أو الإستماع إلى الأناشيد المعنية وحضور فيلم الرسالة الخالد للمخرج الراحل مصطفى العقاد، لأن في ذلك قدرة على إبلاغ الرسالة المحمدية بطرق قد يعجز عنها أكبر الخطباء، لأن بذلك ننمي الروح الإسلامية الجديدة ونحصن أبنائنا من الحاقدين على الإسلام، كالمدعو ماكرون، ذاك المتشنج الأوروبي، الذي يريد حرباً صليبية جديدة على الإسلام والمسلمين، وقودها مع الأسف بعض المسلمين والأنظمة العربية.
فليس أجمل كما أشرت أعلاه أن نقرأ السيرة النبوية من خلال المنظور القرآني، ونقرأ كتاب “الشمائل المحمدية” للإمام الترمذي، فالرد على الحملة الصليبية اليوم، بالتمسك بالإسلام من خلال قراءة تاريخنا الإسلامي يومياً لنحصن أنفسنا بالأخلاق المحمدية، فمقاطعة البضائع الفرنسية لن تكون قيمتها بحجم تسلحنا بأخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكلنا يجب أن نتحمل المسؤولية من مواقعنا، وبحسب مقدرتنا، فديننا دين يسر لا عسر، وأن نطبق ذلك لا فقط شعارات وتغيير صور شخصية، دون أفعال، فيجب أن نكون جنود وقلاع هذا الإسلام الكبير، ونرد إساءة الغرب بخُلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هم يخطؤون ونحن من سيعتذر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عملاً بأخلاقه الحميدة.
وختاماً، بعض الفرق الإسلامية التي لديها ردة فعل عنيفة، من الإسلام والمسلمين، لأن بعض الأشخاص لكثر ما لديهم غلو وتطرف مذهبي، أسقطوا من حساباتهم سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فمن الجميل زيارة الصحابة وآل البيت، لكن ليس على حساب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك تجد في أدبياتهم الثقافية ومنابرهم الكثير من المغالطات التاريخية، ويقولون إن السيرة النبوية كتبها بني أمية أو بني العباس وهذا يدل على الجهل وباطنية، لأن من يكون من علماء الأمة هو من خدم الأمة ليسوا عملاء لأحد، فمن قرأ السيرة النبوية صحيحة لأعطى لكل صاحب مقام حقه.
أخيراً أتوجه لكل محبيّ القراءة، إقرأوا كتاب الأيام لسيرة طه حسين، وإقرأوا على هامش السيرة النبوية في هذا الوقت بالتحديد، وإستمتعوا بجمال العبارات والحب بين سطوره، وعيشوا مع هذه الروح الجميلة الجديدة التي كسر فيها رتابة الأسلوب التقليدي للعلماء المسلمين عندما يكتبون السيرة النبوية فهذا الأسلوب أدبي جديد وفريد، وشخصياً أتمنى من علماء اليوم والروائيين والكتّاب والمهتمين بالقصة والرواية وخاصة الأسماء اللامعة منهم على إمتداد العالم العربي، أن يكتبوا لنا مرةً أخرى السيرة النبوية بأسلوب روائي جديد يمتع الطفل والشاب والكبير، وهي أفضل رسالة تصفع المدعو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فاليوم هذا إعلان حرب واضح وصريح ضد الإسلام والمسلمين، والعار كل العار لكل من صف إلى جانب هذا المعسكر الصليبي الحاقد على الإسلام وعلى حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر