إن كنا نكتب اليوم مثلاً، عن ذكرى الوعد البلفوري في ذكراه المائة وثلاثة، أوعن معطيات المشهد الفلسطيني وآفاقه، في ظل خرائط ووثائق الحرب المحتدمة اليوم على امتداد الخريطة الفلسطينية والعربية، فإننا لا نكتب تحت وطأة المناسبة بصورة مجردة في سياق تاريخي هادئ ورتيب، فالذكرى تعمقت في نسيج الوعي والتفكير الفلسطيني، بل وفي الوعي الجمعي العربي، وباتت أكبر وأخطر من أن تكون في يوم محدد، فهي على نحو أشمل وأعمق قد غدت هاجساً ادراكياً يشمل الشعب الفلسطيني، وقد حرص الفلسطينيون على مواجهته بالتمسك بثقافة العودة والحق الراسخ بالعودة، الذي يعني أبدية العلاقة بين الفلسطيني ووطنه وإنسانيته ووجوده؛ “فالنكبة في الفلسطيني والفلسطيني في النكبة”.
وما بين الوعد واليوم، أو ما بين بلفور وترامب، فرغم زخم الأحداث والتطورات المتلاحقة في المشهد الفلسطيني العربي الشرق أوسطي، ورغم الأعباء الكبيرة التي يرزح تحتها الواقع الفلسطيني، ورغم النكبات المتصلة التي تنصب على رؤوس الفلسطينيين منذ عام 48، ورغم التضحيات والعذابات اليومية للشعب الفلسطيني، التي من شأنها ربما أن تشغل بال الجميع عما حصل في الماضي، إلا أن الوعد والصفقة الترامبية حاضران في الوعي الجمعي الفلسطيني وفي الذاكرة الوطنية الفلسطينية، باعتبارهما أضخم وأخطر عنوانين في المشهد الهولوكوستي الفلسطيني المفتوح عبر أكثر من قرن من الزمن.
مقدمات ومحطات استعمارية
فإن كان وعد بلفور حاضراً في الوعي الجمعي الفلسطيني، باعتباره أساس النكبة وضياع فلسطين، فإنه لم يكن يتيماً بلا مقدمات وممهدات سبقته، تحمل ذات المضامين البلفورية، فوفق الوثائق، فقد مهدت لاختلاق الدولة الصهيونية، سلسلة متصلة طويلة من الأفكار والمشاريع والمؤتمرات والوعود الأوروبية والامريكية التي توجت عام 1948بإقامة”إسرائيل”، وحسب بعض الوثائق تعود بدايات طرح “تجميع اليهود في فلسطين”وإقامة “وطن قومي لهم” إلى مارتن لوثر الذي وضع كتاباً في هذا الصدد بعنوان”عيسى ولد يهودياً”، وكذلك كتاب”روما و القدس “عام 1520، حيث دعا فيهما إلى”عودة اليهود إلى فلسطين”، وتتحدث وثائق أخرى عن أن بدايات طرح”تجميع اليهود في فلسطين” بدأت في عهد آرثوركرومويل الذي وعد اليهود بالوطن في عام 1655، وتقول ريجينا شريف في كتابها”الصهيونية غير اليهودية..جذورها في التاريخ الغربي”، أن البدايات الأولى لطرح فكرة”تجميع اليهود في فلسطين” كانت عام 1649، مروراً بعدد آخر من المبشرين ب”الوطن اليهودي” ومنهم الليدي”استر سترانهوف” التي دعت وبشرت بالوطن اليهودي ما بين 1804-1819، وهناك المزيد من الوثائق التي مهدت كلها إلى”اختلاق إسرائيل في فلسطين على انقاض إسكات ومحو الزمن العربي الفلسطيني”.
وتذكر المصادر التاريخية، أن نابليون كان أول سياسي أوروبي ينادي علانية، بإقامة دولة لليهودعلى أرض فلسطين، وهو صاحب النداء المشهور الموجه لليهود”ورثة أرض إسرائيل الشرعيين”الذي صدر في نيسان 1799، وسرعان ما تلقف الرئيس الأمريكي جون آدامز الفكرة، فدعا في عام 1818 إلى”استعادة اليهود لفلسطين وإقامة حكومة مستقلة لهم”، ثم تلقف رئيس وزراء بريطانيا اللورد”بالمرستون” الفكرة، ففي عام 1839 أصدر تعليمات إلى القنصل البريطاني في القدس وليام يونغ، بمنح اليهود في فلسطين الحماية البريطانية لضمان سلامتهم، وصيانة ممتلكاتهم وأموالهم، وأثناء عقد مؤتمر الدول الأوروبية في لندن عام 1840 قدم اللورد شافتسبري مشروعاً إلى بالمرستونأطلق عليه”أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، داعياً إلى أن تتبنى لندن”إعادة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة خاصة بهم”، وتبنى بالمرستون خلال المؤتمر مشروعاً يهدف إلى”خلق كومنولث يهودي في النصف الجنوبي من سورية، أي فوق المساحة التي شغلتها فلسطين التوراتية”.
يضاف إلى كل ذلك، التطورات اللاحقة، من اتفاقية سايكس-بيكو إلى بلفور، فمؤتمر سان ريمو، ثم صك الانتداب، ثم قرار لجنة بيل، ثم مؤتمر بلتيمور، وصولاًإلى قرار التقسيم 181، وبذلك تتكامل مراحل ومحطات تطورات المشهد في فلسطين في بعدها البلفوريالتآمري.
بلافرة النكبة والتهويد
إذن، لم يأتِ وعد بلفور يتيماً، فقد سبقته كل تلك التصريحات والمؤتمرات والوعود المشار إليها، ونحن إذ نستحضرها ونحن في فضاء الذكرى المائة وثلاثة على الوعد المشؤوم، فذلك لغاية النبش في التاريخ واستحضار الحقائق والمحطات الرئيسية التي أوصلت إليه، وأسست للتطورات التي لحقت به، إذ واصل نهجه ووعده عدد آخر من البلافرة المتصهينين؛ بلافرة النكبة والتشريد والتهويد، فنستحضر دائماً عوامل ومسببات النكبة، وقيام تلك الدولة الصهيونية على أنقاض الوطن والشعب العربي الفلسطيني، ونتذكر وعد/تصريح بلفور الذي منح فلسطين”وطنا قومياً لليهود –بغير حق”، وحول النبوءة الهرتسلية من وهم إلى حقيقة، فكلما حلت مجزرة أو نكبة جديدة بالفلسطينيين، نتذكر ذلك الوعد، ونجرم بريطانيا الاستعمارية، وكلما اقترفت دولة الاحتلال المزيد من النكبات، نلعن دائماً وعد بلفور الذي لا ينتهي…!
فكلما حلت الذكرى البلفورية، يستحضر الفلسطينيون ومعهم العرب، في مقدمة ما يستحضرونه تلك المناخات والمؤامرات التي أحاطت بفلسطين أيام بلفور، وبعده بثلاثين عاماً “قرار التقسيم”، وكلاهما نتاج بريطاني كامل الدسم لصالح المشروع الصهيوني، فالعلاقة الجدلية ما بين الوعد والقرار قوية عميقة واستراتيجية، فلولا الوعد لما جاء التقسيم، ولولاهما معا لما ولد”الصبي-إسرائيل”، ولولا الاحتضان البريطاني الاستعماري الكامل الشامل للمشروع الصهيوني، لما ضاعت فلسطين. فالوعد يلاحقنا بتداعياته الواسعة الكارثية على مدار الساعة، وتحول إلى تطبيقات وإنجازات صهيونية إعجازية-كما يزعمون-، بل انضمت إليه المزيد من الوعود بغير حق أيضاً، والتي تضافرت كلها لتنتج مشهداً سياسياًوجيوديمغرافياً مختلفاً، لم يخطر حتى ببال البلافرة مجتمعين؛ فالصهيونية التي ابتزت وعد بلفور، تشن اليوم هجوماً استراتيجياً خطيراً على القضية الفلسطينية، يقوده الرئيس الأمريكي ترامب الذي وصفه تشومسكي بالأمس فقط بأنه”أسوأ من هتلر”.
من ترامب إلى نتنياهو
فمنذ أن شكل حكومته الأولى عام 1996، فتح نتنياهو معركة شرسة، وشن موجات من الحملات السياسية والإعلامية التحريضية، زاعماً “أن اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية هو الدليل الوحيد على استعدادهم للسلام”، مؤكداً في مؤتمر بشأن مستقبل الشعب اليهودي عقد في القدس بمشاركة زعماء يهود من كافة أنحاء العالم- إنه:”حين يعترف شركاؤنا بإسرائيل كدولة يهودية سيكونون مستعدين للسلام”، مضيفاً:”أنه سيجبر الفلسطينيين على الاعتراف ب”يهوديةإسرائيل”، بل وذهب نتنياهو إلى أبعد من ذلك، إذ قال لاحقاً لصحيفة”إسرائيل اليوم”:” نحن لا نريد للعرب أن يكونوا مواطنين ولا رعايا لنا”. فأين يريدهم نتنياهو إذن…باتجاه الشرق أم الشمال أم الجنوب يا ترى…؟!
فإذا كان وعد بلفور قد منح بلادنا للدولة الصهيونية، وأنتج النكبة والتهجير والتضحيات والمعاناة الفلسطينية المفتوحة منذ ذلك الوقت، فإن الإجماع السياسي الإسرائيلي اليوم على ضرورة”اجبار الفلسطينيين والعرب على الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية نقية”، إنما يراد من ورائه استكمال وعد بلفور، واستكمال تهويد فلسطين، وشطب القضية الفلسطينية بكافة عناوينها وحقوقها التاريخية والحضارية والتراثية، لصالح تلك الرواية الصهيونية المستندة إلى الأساطير المزيفة التي تعتبر أن”فلسطين هي أرض الميعاد لشعب الله المختار –اليهود، بناء على وعد إلهي”..!
فالاعتراف ب”يهودية إسرائيل” بالمضامين التي يحملها، سيكون وعد بلفور آخر، تستكمل فيه تلك الدولة الصهيونية مشروعها التهويدي لكامل فلسطين، بما يحمله ذلك من شطب لحق العودة لحوالي ستة ملايين لاجئ فلسطيني إلى وطنهم وممتلكاتهم، ناهيكم عن تجريد من تبقى من العرب حوالي مليون ونصف- في مناطق 48 من حق البقاء والملكية والمواطنة هناك، مما يحولهم إلى رهائن تحت الطلب..!
فما بين الأمس وذلك الوعد، واليوم نقرأ التالي:”أرض فلسطين التاريخية هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي”، فما الفرق إذن…؟ فقد يخطر ببال البعض فوراًأننا أمام بلفور، أو بوش، أو نتنياهو أو باراك أو أي متشدد صهيوني من جهتهم هناك في “إسرائيل”، ولا يخطر بالبال أن يكون القائل هنا هو الرئيس الأمريكي ترامب بقلمه ولسانه.
فمن “بلفور” إلى التقسيم، ف”النكبة”، إلى “كامب ديفيد”، إلى مدريد، إلى أوسلو، إلى وادي عربة، إلى كامب ديفيد-2-، فخريطة الطريق، ثم إلى”فك الارتباط”، فوعد بوش لشارون، وصولاًإلى الرئيس أوباما الذي أطل علينا في ذكرى النكبة حينها، ليقدم ما يشبه وعداًبلفورياً جديداًل”إسرائيل”، يمنحها فيه اعترافاً متجدداً بأن”فلسطين هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي”. ثم وصولاًإلى الرئيس ترامب الذي منح”القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل-وهذا وعد بلفوري آخر-.
كلها إذن، وعود بلفورية، تتصل وتتواصل كمحطات على أجندة النكبة الفلسطينية المستمرة، وتكرس حالة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني في فلسطين.
صراع مفتوح حتى التحرير
فالحاصل الاستراتيجي في المشهد الفلسطيني اليوم، في ظل كل هذه الوعود والمؤامرات البلفورية، وفي ظل تكاثر بلافرة النكبة والتشريد والتهويد، أن فلسطين العربية من بحرها إلى نهرها عبر التاريخ، تتحول هكذا، بفعل البلافرة، إلى بلاد صهيونية، والحقوق العربية التاريخية في فلسطين، باتت تختزل اليوم بعملية تطبيع وتعايش عربي، لم يكن من شأنها وتداعياتها سوى إهدار الوقت، وتمدد وتكريس الاستعمار الاستيطاني، والمطالب العربية بالتحرير الكامل لفلسطين، تتقلص كل يوم، لتغدو بحجم قطعة من مساحة الضفة الغربية، وحق العودة لملايين اللاجئين، بات اليوم في مهب الرياح الصهيونية، بل إن المدينة المقدسة، اخذت تتحول هويتها العربية الإسلامية، إلى هوية صهيونية يجري أدلجتها وتغطيتها بالأساطير التوراتية، فالقدس تتهود بنصوص توراتية على مرأى من العالمين العربي والإسلامي.
والحاصل الاستراتيجي اليوم أيضاً، أن كل القرارات الأممية المتخذة في القضية الفلسطينية، لصالح العودة وإقامة الدولة، تساقطت تباعاً بفعل السطوة الصهيونية-الأمريكية على هيئة الأمم المتحدة، فبات حتى مجرد التوجه الفلسطيني للأمم المتحدة لنيل الاعتراف ب”دولة غير عضو-تصوروا…!-يقيم الدنيا الصهيونية-الأمريكية والأوروبية ولا يقعدها، اعتراضاً على هذه النية الفلسطينية.
لا شك أن كبرى الكبائر العربية هنا، أن الدول والسياسات العربية الرسمية، تأقلمت مع الأمر الواقع البريطاني أولاً، ثم الأمريكي الصهيوني ثانياً، لتنتقل في السنوات الأخيرة ثالثاً، من موقع اللاءاتإلى موقع النعمات، في التعاطي مع المشروع الصهيوني وتفريخاتهالتهويدية على الأرض. والحاصل الاستراتيجي ايضاً أن”الوعد البلفوري” الأول، ثم الوعود البلفورية البوشية فالأوباميةفالترامبية اللاحقة، لم تكن لترى النور، ولم تكن فلسطين لتقسم وتضيع وتغتصب وتهوّد، لو تصدى العرب آنذاك واليوم للوعد ولمشروع التقسيم البريطاني – الصهيوني كما يجب.
ما يعيد القضية والأوضاع كلها إلى بداياتها، ففلسطين تبقى عربية رغم التهويد الجارف، ورغم بلفور الأب والبلافرة الجدد، والصراع سيبقى مفتوحاً حتى التحرير، والبشائر في ذلك كثيرة متزايدة.
نواف الزرو – كاتب صحفي وباحث خبير في شؤون الصراع العربي / الصهيوني