بادئ ذي بدء نبارك للأشقاء في الجزائر الذكرى الـ(66) لثورة التحرير الجزائرية التي اندلعت بتاريخ الأول من نوفمبر عام ١٩٥٤م هذه الثورة التي عمدت بالدماء الطاهرة لمليون ونصف مليون شهيد، حق لهم المجد والخلود والشهادة، فنقشوا بتلك الدماء أعظم قصة تحرير في التاريخ، نعم وعقدنا العزم أن تحيى الجزائر ** فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا.
اليوم تحتفل الجزائر بالذكرى السادسة والستين لثورة التحرير الجزائرية، وقبل الحديث عن هذه الثورة المجيدة لا بد أن نعود إلى الوراء قليلا للحديث عن بدايات الثورة الجزائرية الأولى بقيادة المناضل الكبير الشيخ عبدالقادر الجزائري الذي قاد الثورة في عام ١٨٣٢م بعد الاحتلال الفرنسي.
انطلقت ثورة الأمير عبدالقادر الجزائري عام ١٨٣٢م وقد كبَّد الاستعمار خسائر فادحة، بل استطاع استعادة مساحات كبيرة من غرب الجزائر، وسجل تاريخا نضاليا عظيما في تاريخ الجزائر، فوقَّع الاحتلال الفرنسي معه اتفاقية وتم خرقها، ثم وُقِّعت هدنة أخرى والتي تم خرقها أيضا بهدف إجهاض تلك الثورة والسيطرة عليها، وصولا إلى عام ١٨٤٧م عندما قامت قوات الاحتلال بتطبيق سياسة الأرض المحروقة، والسيطرة على المنطقة التي يوجد فيها رجال الثورة، واعتقال قائدها الشيخ عبدالقادر الجزائري فتم سجنه في فرنسا، وأطلق سراحه ليستقر في سوريا حتى وفاته في الـ٢٦ من مايو ١٨٨٦م ونقل رفاته إلى الجزائر في عام ١٩٦٥م.
بقيت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي أطول فترة استعمار في الوطن العربي، فاستفادت فرنسا من ثروات الجزائر الزراعية والطبيعية والجغرافية والبشرية، وأدخلت اللغة الفرنسية لفرنسة الجزائر، كل هذه الحقائق مسجلة في التاريخ، وجنَّدت فرنسا أبناء الشعب الجزائري إجباريا فقاتل أبناء الجزائر في مقدمة الجيوش الفرنسية في الحرب العالمية بعد وعود بمنح الاستقلال للجزائر بعد الحرب، والتي لم تفِ بها بعد ذلك. فبعد أن أعلن الحلفاء الانتصار في الـ٧ من مايو ١٩٤٥م من قبل الرئيس الأميركي ترومان ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل والرئيس الفرنسي شارل ديجول، انطلقت المسيرات والمظاهرات في الجزائر احتفاء بهذا الانتصار رافعين راية التحرير والاستقلال بناء على وعود سابقة بمنح الاستقلال باعتبار وجود أبناء الجزائر في مقدمة الجيوش الفرنسية في الحرب العالمية، وفي هذا التاريخ الـ٧ من مايو ١٩٤٥م عمَّت المسيرات والمظاهرات مدن الجزائر وقراها، فقامت فرنسا في اليوم التالي الـ٨ من مايو باستخدام قواتها البرية والبحرية والجوية لقمع هذه المسيرات السلمية بشكل عنيف في مجزرة تاريخية بلغت (٤٥) ألف شهيد، وتقدرها بعض المصادر الخارجية بين (٥٠) و(٧٠) ألف شهيد، من هنا أدرك أبناء الجزائر أن طريق التحرير لا يأتي إلا عن طريق الكفاح المسلح لنيل الاستقلال، فبدأت الحركة الوطنية وجبهة التحرير الوطني الجزائري بتنوير أبناء الشعب الجزائري بأن الاستقلال لن يتحقق بالمطالبات السلمية، فاستمرت المواجهات مع قوات الاحتلال الفرنسي على شكل حرب عصابات، إلا أن اشتداد ضراوة المواجهات بدأ في تاريخ الأول من نوفمبر ١٩٥٤م، وهو التاريخ الرسمي لثورة التحرير الجزائرية أو حرب الاستقلال الجزائرية وقد استمر ذلك النضال المسلح مدة (٩) سنوات كانت أغلب الهجمات تنطلق من الأرياف نحو العاصمة الجزائر، فعانت فرنسا من استنزاف شديد بسبب هذه الحرب، وكان للدعم المصري بقيادة جمال عبدالناصر دور كبير في مسار حرب الاستقلال، فكان مكتب الحكومة الجزائرية المؤقتة في القاهرة، ومنها انطلقت معظم النشاطات السياسية لجبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة، وكان أغلب التسليح يأتي من مصر وأولها تمويل صفقة سلاح بمليون جنيه، بالإضافة إلى ٧٥% من الدعم العربي المقدم من جامعة الدول العربية حتى أن بن جوريون قال: على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدروا أن “عبدالناصر” الذي يهددنا في النقب وفي عمق “إسرائيل” هو نفسه الذي يواجههم في الجزائر، وذلك من أهم أسباب مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس وانسحبت دول العدوان بقرار دولي بعد مقاومة شرسة من أبناء مدن القناة وتجييش الشعب المصري والعربي لمواجهة العدوان، وعادت شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية وقد خصص بداية ريعها لدعم الكفاح المسلح لثورة الجزائر. كما كان للملك فيصل بن عبدالعزيز أيضا دور في تسجيل قضية الجزائر في مجلس الأمن وتقديم دعم مالي للجزائر، بالإضافة إلى ما قدمته الدول العربية الأخرى في مرحلة من أزهى مراحل التاريخ العربي الحديث، حيث نالت جميع أقطار الوطن العربي الاستقلال، وما زالت آلة التحرير مستمرة بوجود المقاومة العربية في فلسطين، وسيأتي اليوم الذي يتحرر فيه كامل التراب العربي. واستكمالا للنضال الجزائري اضطر الفرنسيون إلى منح الجزائر حق تقرير المصير عندما أعلن شارل ديجول في عام ١٩٥٩م أن للجزائريين الحق في تقرير المصير، فتقرر موعد الاستفتاء على الاستقلال بتاريخ الأول من يوليو ١٩٦٢م، وتم الاستفتاء في ذلك التاريخ لتسجل نتائج الاستفتاء الغالبية العظمى لصالح الاستقلال، فاعترفت فرنسا مباشرة برسالة وجهها شارل ديجول إلى عبدالرحمن فارس رئيس الهيئة التنفيذية المؤقتة للجمهورية الجزائرية باستقلال الجزائر، وتم اعتبار تاريخ الـ٥ من يوليو ١٩٦٢م اليوم الوطني لاستعادة السيادة الوطنية. وللعلم كان هو نفس اليوم الذي سقطت فيه الجزائر بيد الاستعمار في عام ١٨٣٠م، فنالت الجزائر الحرية والاستقلال.
سبق ذلك التاريخ أن تمت كتابة السلام الوطني الجزائري بتأليف الشاعر الجزائري مفدي زكريا عام ١٩٥٦م، وتم إقراره الرسمي نشيدا وطنيا للجزائر بعد التحرير ويقول في بدايته (قسما بالنازلات الماحقات) وقام الموسيقار المصري محمد فوزي بتلحينه وإهدائه إلى الشعب الجزائري عام ١٩٦٣م، كما أدَّى الفنان عبدالحليم حافظ أغنية بعنوان “الجزائر” وهي تحكي قصة الثورة الجزائرية، كما قام المخرج المصري يوسف شاهين بإخراج فيلم جميلة بوحيرد ومؤلفه عبدالرحمن الشرقاوي الذي يتحدث عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد.
جميلة بوحيرد هي المناضلة الجزائرية التي سجلت اسمها في تاريخ النضال العربي عامة والجزائري بشكل خاص، هذه المناضلة الكبيرة التي جسدت بنضالها المعنى الحقيقي الصادق للثورة الجزائرية، وكتب عنها كبار الشعراء العرب أمثال الشاعر بدر شاكر السياب والشاعر نزار قباني قصائد خالدة وما زالت تتردد في ذاكرة النضال العربي، نسأل الله الشفاء والعمر المديد لهذه المناضلة الخالدة في ذاكرة ثورة التحرير الجزائرية.
إن قصة النضال الجزائري بما حملت من إرادة وعنفوان وكفاح مسلح تُعد من أعظم قصص النضال العربي في هذا العصر كتبها أبناء الجزائر بدمائهم في ذاكرة التاريخ العربي الحديث، وهي تقدم شهادتها للأجيال العربية أن طريق التحرير والاستقلال لن يتحقق إلا بالمقاومة والنضال، وهكذا قدم العرب خلال التاريخ سجلا نضاليا وتضحيات عظيمة فنالوا شرف الاستقلال.
خميس بن عبيد القطيطي