
عمّان، في 9 نوفمبر/ العمانية/ قال الأمير الحسن بن طلال إن الموروث يؤدي إلى
الحضارة مقابل الهمجية، وإن وسطية القدس تدعونا إلى تلمُّس مفاهيم التاريخ على
أساس العِبر وليس على أساس استمرار الظلامة ومفهوم القلعة العازلة.
ودعا سموه في لقاء نظمه منتدى الفكر العربي عبر تقنية الاتصال المرئي، إلى نظرة
تجاه عالمية القدس، وإيجاد صيغة لاستعادة احترام الإنسان واحترام القدس بوصفها
الملتقى الإنساني الذي لا يتأثر بيوميات السياسة، ولكن يؤثر على الصعيد القيمي
والأخلاقي، وإلّا “لن نرى في المستقبل سوى التكرار لمآسي الماضي”.
وأكد أن جوهر مشروع “القدس في الضمير”، الذي دعا إليه قبل عقود بمشاركة
الشيخ محمد مهدي شمس الدين، يعنى بالإنسان العربي والفلسطيني المقدسي الذي
يعيش الأزمة المستمرة داخل المدينة المقدسة، وكذلك مستقبل هذه المدينة وهويتها
ودورها ودور الإنسان في القدس.
وأشار في اللقاء الذي تناول “صورة القدس في المخطوطات الأوروبية والإسلامية
والعربية”، وقال سموه: “المرصد الحضري الذي نريده، ومركز الحسن بن طلال
لدراسات القدس ما بعد الدكتوراه، كما المركز الإسباني في الطنطور منذ سنة
1966، من شأنها أن تجسّر من خلال الدراسات المسافاتِ بين أتباع الديانات
السماوية الثلاث للحفاظ على الميزان الفكري الثقافي، والفكرة الأساسية هي التعلم من
خلال فهم موروث الآخر، وأن بناء الثقة يقود على الأقل إلى الحوار القائم على القيم
المشتركة”.
ووضح أن الأزمة هي “أزمة قيم”، وأن مسألة الحوار “لا تُبنى على فكرة عائمة
مسبقة”، مضيفًا في هذا السياق: “موضوع حقوق الإنسان والإسلام المعاصر كما
يصورونه في الغرب، يدعو للتساؤل؛ هل هي مسألة قيم، أم هي مسألة هدف سياسي
جديد بعد فشل الشيوعية النووية في ترهيب العالم لنصبح نحن مكانَ الاستهداف”.
وتناول د.محمد هاشم غوشه، المدير العام لمركز الحسن بن طلال لدراسات القدس،
مساهمة الأوروبيين في الكتابة عن القدس في الفترة التي سبقت دخول الإسلام، وقال
إن من أوائل المخطوطات الأوروبية في هذا المجال مخطوطة لاتينية تحمل عنوان “
الأماكن المقدسة” كتبها أسقف فرنكي يُدعى “أركولف”، وصف فيها رحلته إلى القدس
في سنة 679م، مشيرًا إلى أن أبرز ما تركه لنا “أركولف” هو الرسم شبه الدائري
للقدس بأسوارها وبواباتها، إضافة إلى مخطط أفقي لكنيسة القيامة والقبر المقدس.
ووضح غوشه أن مكانة القدس الدينية والاستراتيجية تتمثل في أعمال الجغرافيين
العرب والمسلمين، ومنها على سبيل المثال رسْمُ الجغرافي المسلم الإصطخري
خريطةً لفلسطين والقدس في كتابه “المسالك والممالك” سنة 340هـ/952م، ورسْمُ
الجغرافي محمد الإدريسي الهاشمي القرشي خريطةً للعالم ومن ضمنها فلسطين
والقدس أرفقها بكتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” سنة 548هـ/1154م.
وأضاف أن هناك نمطًا جديدًا من الخرائط بعد الاحتلال الفرنجي للقدس، بدأ يُظهِر
القدس كمدينة دائرية مسوّرة متعامدة تتوسطها قبة الصخرة المشرفة، بالإضافة إلى
كنيسة القيامة، وأسوار القدس. ومنذ ذلك الحين، ظهرت احدى عشرة خريطة أخرى
للفرنجة تعتمد على الخريطة الأم وتُظهر مدينة القدس بشكلٍ دائري.
وبيّن غوشه أن وجود القدس في قلب العالم القديم شكّل فرصةً للجغرافيين ورسّامي
الخرائط لإظهار المدينة المقدسة في مركز العالم، معتمدةً على خريطة مأدبا
الفسيفسائية المكتَشفة في كنيسة الروم الأرثوذكس (في الأردن) سنة 1884م، أو على
خرائط سابقة نشرها بطليموس في القرن الثاني للميلاد، فخرجت من دير سانت سيفر
في فرنسا خريطة دائرية للعالم تعود إلى سنة 1150م وتُظهر القدس في مركز الكرة
الأرضية.
وأشار غوشه إلى أن بانوراما القدس كما رسمها “إرهارد ريويتش” من على جبل
الزيتون كانت أول رسمةٍ بانورامية مطبوعةٍ ضمن كتاب عن فلسطين بعد اختراع
جوتنبيرغ للطباعة. كما أسهم الرحالة الأتراك في توثيق فلسطين والقدس من خلال
أعمالهم التاريخية، ومن أبرز هؤلاء المؤرخ والجغرافي أوليا جلبي في القرن السابع
عشر للميلاد، الذي نشر وصفًا للمدينة المقدسة في كتابه “سياحت نامه” بعد زيارته
لها.
وقال غوشه إن هناك مئات الكتب المطبوعة في أوروبا في القرنين الثامن عشر
والتاسع عشر للميلاد عن القدس وفلسطين، إلى جانب خرائط بيريه جيكوتين التي
ظهرت كأول خرائط تفصيلية لفلسطين ومن ضمنها القدس بعد فشل الحملة الفرنسية
على مصر وفلسطين في سنة 1799م، فضلًا عن دور صندوق استكشاف فلسطين
في التوثيق الجغرافي للقدس وفلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
للميلاد، وكذلك دور الجمعية الألمانية لتوثيق فلسطين، إذ نشر “غوتليب شوماخر”
خرائط تفصيلية مهمة.
من جهته، قال الأمين العام للمنتدى د.محمد أبو حمّور في كلمته التقديمية، أن
المصادر التاريخية ترى في القدس مدينة القداسة والتنوّع وموقعًا استراتيجيا منيعًا،
ونقطة الترابط بين بلاد الشام ومصر، وأنها ظلت مقصدًا للحجاج من أتباع الديانات
السماوية الذين يأتونها من كل أنحاء العالم.
وقالت الباحثة البحرينية د.نائلة الوعري، أنّ الخرائط المكتشفة لمدينة القدس تكمّل
عمل الباحثين الجغرافيين من نصوص قديمة ورحلات مهمة، مما يؤكد ضرورة
البحث عن نصوص تكمّل دور الخرائط المكتَشفة عن القدس، من أجل شرحها
وإيضاحها وبيان تاريخها، إضافة لدور هذه النصوص في تحديد ما إذا كانت الخرائط
المتوفرة تعدّ مصدرًا أساسيًا لمعرفة المعالم المعمارية للقدس في المراحل التاريخية
المختلفة.
وبيّن أستاذ دراسات التاريخ الإسلامي في جامعة الكويت د.نعمان جبران، أن بعض
الخرائط الدائرية التي تصوّر القدس تسمى خرائط (TO)، وهي خرائط يقْسِمها
صليب غير مكتمل على شكل حرف (T)، قد تكون خرائط للعالم والقدس في وسطها.
وأضاف أن كتب الرحالة الغربيين توضح أن الخريطة بدأت تأخذ شكلًا دائريًّا لكن
بالصليب الخماسي الذي يرمز لمدينة القدس كنواة للعالم، مما أدى إلى ما يسمّى “
القدس السماوية”؛ مشيرًا إلى أن هذا المفهوم ظهر مع تراجع المدّ الفرنجي واحتلاله
لفلسطين، مما كان يشير إلى فكرة إلغاء الحاجة للحروب للوصول إلى الأماكن
المقدسة.
وأشار رئيس جامعة أحمد يسوي التركية الكازاخستانية الدولية د.جنكيز تومار إلى
الإقبال الكبير على البحث عن القدس ووثائقها العثمانية في تركيا وكثرة المؤتمرات
والمؤلفات عنها، ومنها “القدس الشريف في دفاتر المهمّة” في تسعة مجلدات،
و”أطلس ودليل المواقع الفلسطينية في العهد العثماني”، والذي يشمل كل أسماء
المواقع والمدن والقرى طبقًا للوثائق العثمانية ووثائق الأوقاف.
أما الباحث المصري د.فرج الحسيني، فلفت النظر إلى أهمية التفريق بين صنفَي
الخرائط التي رسمت القدس، فالنوع الأول منها هي الخرائط العامة التي تُظهر القدس
وطرقها ومسالكها وبُعدها عن مصر وبلاد الشام. أما النوع الثاني فهو المصوّرات
التي تُظهر المدينة بمنظور عين الطائر وتبيّن تفاصيل معمارية معينة لأسوار القدس
ومعالمها ومبانيها.
وقال الحسيني إنّ المصوّرات التي رسمها الأجانب للقدس رُسِمت بروح أوروبية لا
تمس بواقع القدس في العصر الإسلامي، وأن المعمار المصوّر ذا الطابع الأوروبي
إنما هو محاولة تقريب صورة القدس لجمهورها الأوروبي وليس وصفًا لها، ولذلك
لا يمكن الاعتماد عليها بشكل يقيني للوصف المعماري. أما المصورات من القرن
السابع عشر فهي المصورات التي يمكن الاعتماد عليها، فهي ذات تقريب أوضح
لمدينة القدس، من ناحية الأسوار المربعة، والمنطقة غير المنتظمة لأسوار القدس،
والفصل بين المسجد الأقصى والمدينة، والتصوير الدقيق لباب الرحمة ومقبرة باب
الرحمة.
/العمانية /