مظاهر التبعية الثقافية أصبحت أمرا، واقعا إلا أنه ينبغي التذكير بما يجب علينا فعله ازاء البقية الباقية من ثقافتنا..”
مدخل :
إذا كانت الثقافة – كما يعرفها البعض- “معرفة عملية مكتسبة تنطوي على جانب معياري وتتجلى في سلوك الانسان الواعي في تعامله الاجتماعي مع الوجود” فإن صلاحية أية ثقافة للانسان إنما تتوقف على المصدر الذي استمدت منه معيارها وتأسست عليه، وذلك المصدر هو الذي يجعلها تتمايز عن الثقافات الاخرى.
إلا إن وجود المعيار وحده لا يكفي لكي تتبوء تلك الثقافة الموضع الذي يراد لها أو تترك الاثر المراد ان تحدثه في النوع الانساني ما لم تكن وراءها قوة تجعلها تسري بين الناس وتحركهم طوعا وكرها، اختيارا واضطرارا.
التبعية الثقافية
ومن هنا فان ما يشهده العالم من الانسياق نحو اعتناق مظاهر ثقافية محددة إنما مرده الى القوة المؤثرة التي تقف خلف تلك الثقافة وليس الى صلاحية المعيار الذي تقوم عليه ومصداقيته، فكثير من الثقافات تمر اليوم بمرحلة حرجة من حيث الثبات والتغير، والتماسك والذوبان، والتأثير والتأثر أمام الثقافة المفروضة بالقوة، فإما ان تذوب تلك الثقافات في الثقافة المهيمنة وإما أن يسمح لها بالبقاء بقدر تبعيتها وتأثرها بالثقافة الوافدة الى أن تصبح مسخا مشوها كالمخلوق المشوه.
هذا، وغالبا ما تبدأ مسيرة التبعية الثقافية بترويجها من المؤثر وبقبولها التدريجي من المتأثر من خلال تهوين الاشياء وتبريرها بالواقع وبدعوى الحفاظ على “المشترك الانساني” و”الاخوة الانسانية” و”المواطنة العالمية” اللتين يراد من الدعاية لهما ونشر مبرراتهما تذويب الثقافات الخاصة وإضعاف، أو قل قطع الانتماء الوطني والإعتزاز بالقيم الإجتماعية والسمات الثقافية التي تمتاز بها الشعوب والقوميات بعضها عن بعض “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ” ولجعل اتباع الملل والنحل وفي مقدمتهم أمة الإسلام أشبه بقطيع يساق الى جهة واحدة تتغياها الثقافة المهيمنة التي تمتلك اليوم القوة المعرفية لخلق عالم جديد تهيمن عليه يراد لها أن تكون “ثقافة كونية” تديرها الرأسمالية المتوحشة تحت مظلة المؤسسات الدولية التى اقامتها الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية لتكون غطاء ووسيلة لشرعنة مرحلة جديدة من الاستعمار شريعتها القوانين الدولية وأداتها الاقتصاد الرأسمالي العابر للقارات ووسائل الاعلام الفضائية وبنوك الاقراض الربوية. وها هي اليوم تصدح بأنغام معزوفة وبألحان جذابة تدغدغ مشاعر الشباب والنساء وخيالاتهم وطموحاتهم لاشباع متطلباتهم الجسدية والمادية.
مقارنة بين ثقافتين
لا يخفى على كل متابع واع مظاهر التبعية الثقافية التي غدت وكأنها من صميم ثقافة المسلم وجزء من منظومة قيمه الاجتماعية في كل مجالات حياته العامة منها والخاصة الا ماندر، وليس المقام هنا مقام السرد والاستقصاء وانما من اجل ضرب المثال فقط من خلال المقارنة بين ثقافتين .
فمن الواضح لكل مراقب ومتتبع أن المسلم يراد منه هو فقط أن يدفع ضريبة التهيئة لاستمرار ثقافة تسحق كل ثقافة تقف في طريقها عائقا وتعلن الندية لها صلاحية وإصلاحا، ويريد بعض أبناء المسلمين -للأسف -أن يكونوا عونا لأعداء ثقافتهم ليستمر ابناء جلدتهم بدفع ضريبة تسليك تلك الثقافة من دمهم وعرقهم ومن خيرات اوطانهم برا وبحرا وفضاءً؟! ولاتفسير لهذا الواقع إلا أن الثقافة الاسلامية كاد حماتها أن يتخلوا عنها.
فبينما نجد -مثلا- الثقافة اليهودية لم يتزعزع اتباعها قيد أنملة عن ثقافتهم في كل شيء، فلو سلك هؤلاء هذا المسلك الذي يطلب من المسلم ان يظهر به ويتعامل به مع الغير لما بقيت لهم خصوصياتهم وما فرضوا على العالم احترام ثقافتهم.
فبينما نرى اتباع الثقافة اليهودية يفرضون على العالم احترام ثقافنهم حتى الطعام في الطائرات والفنادق والمطاعم والمؤتمرات يجدونه مجهزا وفق شريعتهم وتتوقف يوم السبت جميع انشطتهم العامة، حتى الاجتماعات الدولية والاقليمية والاجتماعات الثنائية لاتعقد في هذا اليوم لا لشيء إلا لأن اليهود احترموا ثقافتهم فاحترمهم العالم بينما نرى اتباع الثقافة الاسلامية يتنازلون عن ثقافتهم كل يوم شيئا فشيئا الى أن وصل الى جمعتهم وربما يصل التاثير الى العيدين فيقال لهما الإجازة يوما واحدا فقط !.
التهاني المتبادلة
ولما كانت المقالة تتحدث عن التبعية الثقافية والعالم على عتبة سنة ميلادية جديدة وخلال الساعات القادمة ستنطلق التهاني ترحيبا بقدومها وسيشارك معظم المسلمين بتبادل التهنئة بينهم, وكذلك مع الاخر، انطلاقا من القول بأن التقويم الميلادي أصبح تقويما عالميا.
نعم، لابأس أن نتعامل بموجبه مع العالم كله لارتباط المصالح به، ولكن لايعني ذلك ان نعتبره جزءا من ثقافتنا ومناسباتنا، فما كان سيفرض عالميا لولا أن القوة المهيمنة هي التي تقف وراء نشره وفرضه، ولو تركت الامم على خيارها لاختارت تقويمها الخاص وعملت به.
ألا تعتبر التهنئة بهذا التقويم وبالاحداث والمناسبات ذات الطابع الديني داخلة تحت مفهوم التبعية الثقافية؟!!
ترى لو ان العالم اتفق أن يجعل بداية العام الشهر الذي يبدأ به احد فصول السنة الطبيعية كشهر ديسمبر او مارس او يونيو أو سبتمبر ويكون هو التقويم العالمي ويبقى التقويم الحالي تقويما خاصا للثقافة التي فرضته، كما للمسلمين تقويم خاص بهم هو التقويم الهجري وكذلك بقية اتباع الملل والحضارات والثقافات الاخرى، أقول: لو ذهب العالم هذا المذهب هل سيوافق على ذلك من فرض التاريخ الميلادي ؟!!!
ثم، ولو كانت التهنئة يبررها الواقع والمشترك الانساني لفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين الذين كانوا يكونون جزءا من المجتمع في المدينة ولفعلها الصحابة والتابعين لهم في القرن الاول الهجري مع غير المسلمين في الامصار التي فتحوها.
هذا، وليس عدم التهنئة انتقاصا من العدل والمساواة ، بل هو العدل عينه، فإظهار عدم قبول الاسلام بما يجري في تلك الاعياد من تأليه المسيح هو انتصار للمسيح نفسه فهو عدل بين المسيح ومن يدعي اتباعه، والاسلام لم يأمر بالمساواة في كل شيء بين المسلم ومن يعيش معه حتى جيرانه واهل دينه، فكيف يطلب من المسلم تطبيق المساواة في كل شيء؟! فعدم المساواة في كل شيء مراعاة للخصائص هو العدل عينه.
ثم ،هل يقوم المسلم الذي يتبادل التهنئة مع غير المسلم في المناسبات الخاصة به بواجبه في دعوته الى الاسلام ليجعل التهنئة تأليفا له أم أنه ينظر اليه على أنه غريب لا يلبث ان يفارقه؟!.
الأمر إذا ضاق اتسع
على إنه إذا اقتضت ظروف زمانية او مكانية ما أومجتمع يعيش فيه المسلم مختلطا بغيره واجبرته تلك الظروف أو الاوضاع الوقتية والاستثنائية على مبادلة التهنئة مع جاره غير المسلم فذلك وضع خاص، ولكن لا يحمل المسلم نفسه على تهنئة أخيه المسلم بعيد ليس عيده، وبعام لاينتمي تاريخيا وحضاريا الى تاريخه وحضارته وثقافته فضلا عن دينه. فهل سمع أحد أو قرأ أو رأى يهوديا يهنّئ اخاه اليهودي او نصرانيا يهنّئ اخاه النصراني بالسنة الهجرية الجديدة وبعيد الفطر او الاضحي او ذكرى مولد محمد رسول الله الى الناس اجمعين، بل وحتى بالسنة الميلادية وهل هنأ مجوسي مجوسيا بالسنة الهجرية أو بعيد الفطر..الخ؟!!! لا أظن حدوث ذلك ولا أتوقعه.
الخلاصة
مظاهر التبعية الثقافية أصبحت أمرا واقعا إلا أنه ينبغي التذكير بما يجب علينا فعله إزاء البقية الباقية من ثقافتنا التي هي ترجمان عقيدتنا وديننا والبناء المتراكم لحضارتنا وتراثنا.
الاسلام شرع لغير المسلمين في المجتمع الاسلامي احكاما تنظم حقوقهم وواجباتهم وعلاقتهم ،وعلى المسلم أن يلتزم بها ويعرّف غير المسلم بها .
ومع ذلك فلن يعجز اتباع العولمة الثقافية وثقافة العولمة ان يجدوا تبريرا لما يقولون.
وسيبقى الجدال قائما فالتدافع سنة تشريعية كونية الى أن يرث الله الأرض ومن عليها ثم إليه سبحانه له وحده الحكم والعدل، والقول الفصل، فليعدّ كلُ انسان ملف مرافعته حيث يقال له “كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا” “بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ”والله المستعان.
د. علي بن هلال العبري
ليلة الجمعة ٢٦ جمادى الأولى ١٤٤٣هج
الموافق له :٣٠/ ١٢ / ٣٠٢١