قتها سابقاً وأكررها، لا يمكن للعراق أن ينهض إن لم يخلع عن أكتافه عباءة التدخلات الخارجية، ففيه من الكفاءات الكثير ممن لهم القدرة على إدارة البلاد وفق مصالح أهلها، لا وفق أهواء الحلفاء لأحزابٍ هنا، وتياراتٍ هناك، أما آن الأوان لهذا البلد أن يعيش ويدير دفّة قيادته بنفسه!
من المعيب جداً أن يصل الأمر في العراق البلد الجميل،علانيةً للمشادات اللفظية وربما كان أكثر من ذلك، أرض العلماء والصالحين، أرض الخيرات والبساتين، بلاد الرافدين، يحصل فيها هكذا، فأين العقلاء والحكماء وأصحاب الحميّة العراقية العربية الأصيلة من كل ما يحدث؟
وفي انتخاب محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان العراقي، بعد جلسة أولى للمجلس النيابي سادتها الفوضى والمشادات بين النواب. ما أظهر حجم التوتر بين التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر الذي تصدر الانتخابات النيابية والأحزاب والمجموعات الأخرى على عملية تشكيل الحكومة التي تتعثر وسط إصرار الصدر على تشكيل حكومة أكثرية، وتمسك آخرين بحكومة توافقية يتمثل فيها الجميع، فهل يعقل أن يحدث ذلك، ويتعرض رئيس الجلسة لاعتداء نقل على إثره للمشفى؟ وذلك بعد أن حصلت مشادات ووقع تدافع بين الكتلة الصدرية والإطار التنسيقي حول أحقية أحدهما بأنه الكتلة الأكبر.
منذ بداية الانتخابات وإعلان النتائج الأولية، كانت هناك توقعات بفوضى عارمة، تلا ذلك فترة الطعون وإعلان نتائجها والتي لم تختلف عن النتيجة الأولى والتي على إثرها استبعدت أحزاب قيل إنها موالية لإيران، بالتالي، هذا المشهد يضع العراق أمام تحديات أمنية ستزيد من شرخ الانقسام الموجود أصلاً، (سني – شيعي)، و(شيعي – شيعي)، وكما العادة الخاسر الوحيد هو الشعب العراقي، وعلى خلفية تحذيرات أطلقتها بعض الأصوات العراقية بحجة الولاءات والإملاءات الخارجية التي تتحكم بالعراق، اعتبرها البعض بأنها تهديد صريح ينذر بتصعيد على مستوى الداخل من خلال مظاهرات واحتجاجات قد تتطور وتتحول إلى احتراب يزيد من معاناة الشعب الذي لم يهنأ منذ عقود بنعمة الأمن والأمان، فما بالكم بما يتعلق بالاقتصاد السيء جداً!
ما حدث لا يفسر إلا أنه مؤشر على تراجع الدور الذي لطالما مارسته قوى إقليمية معينة في العراق، وخاصة في هندسة حكوماته وتوجيه سياساتها، وأن ثمة ملامح لتبلور تحالف عراقي عريض، أضلاع مثلثه هم الصدريون والأكراد والسنة، مع انكماش تأثير وسطوة الفصائل المسلحة وواجهاتها السياسية، فالتخوف الحقيقي يكمن هنا، لأنهم أيضاً مكون عراقي، ومسألة استبعادهم أو تهميش دورهم السياسي، قد يخلق بلبلة لا يُحمد عقباها، لأن المطلوب اليوم التشاركية، لا الإقصاء أو الإلغاء أو التحزب لجهة أو حليف على حساب آخر، فلكل جهة حليفها سواء الإقليمي أو الدولي، وهذا الأمر إن لم تتم معالجته بالقدر المطلوب من الحكمة والتعقل، إن الحقبة القادمة على العراق، حقبة سوداوية، لذا المطلوب اليوم الاتحاد لا الإلغاء، لكن المطلب الأهم من كل ذلك، هو التفكير الجمعي بعراق واحد، والابتعاد عن الولاءات الخارجية، ليصنع العراق قراره بنفسه، فما من أمر مشين أكثر من التدخلات التي تزيد الشرخ بين الأشقاء، وبصراحة ودقة أكثر، لن يعرف العراق عيشاً رغيداً إن لم يتخلص من هذه التبعية.
ومن المعروف أن العُرف المتبع منذ العام 2005، في عملية الانتخابات أن يكون رئيس البرلمان من العرب السُّنة وله نائب أول شيعي وآخر كردي، بينما رئيس الحكومة من الشيعة ورئيس البلاد من الأكراد، لكن ما الذي تغير اليوم حتى تحدق الفوضى والمشادات والرفض والشجب؟ ولماذا رفضت كل الأطراف السياسية العراقية الشيعية باستثناء التيار الصدري- مخرجات جلسة انتخاب رئيس المجلس ونائبيه وعدم الاعتراف بها، وإنها تحمل الجهات السياسية مسؤولية التصعيد داخل جلسة البرلمان الأولى وكل تداعياته، ووصفت ما حدث بأنه انزلاق الأمور إلى هذا التخندق الحاصل “بات ينذر بخطر شديد”، وبكل الأحوال هذه السيناريوهات معروفة للجميع، وليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، فإن لم يحدث داخل البرلمان العراقي، فقد حدث في أماكن كثيرة، في المدن التي كانت جنّة خضراء وتحولت أراضيها إلى أراضٍ قاحلة، من بلدٍ زراعي منتج، إلى بلد مستورد لكل شيء، بغياب البرامج الحقيقية كل ما سبق حتى ولو انتخب أياً كان، لأن التخندقات والاصطفافات الحاصلة، هي سبب وجع العراق وربما تكون سبباً في دماره.
إذ أنه رغم صعوبة التنبؤ بمستقبل الأحداث في العراق عام 2022، فالمتوقع أن يكون عاماً ساخناً مع ما تبين للجميع بعد أول جلسة برلمانية، ومع استقرار التشكيلة الجديدة يتبادر سؤال مهم، هل من الممكن أن يتغير شكل العراق الحالي؟ الاعتقاد الأقرب إلى المنطق أن الحكومة لن تكون قادرة على مواجهة التحديات وتبقى تدور في دوامة الفساد، والمصيبة إن عادت الوجوه نفسها إلى الواجهة في وقت على تعاقب كل الحكومات السابقة، لم يتغير شيء، وعود ووعود ووعود فلا تنفيذ على أرض الواقع، والمتوقع الأكثر هو نقل هذه الخلافات إلى الأرض، خاصة مع تقديم الولايات المتحدة التهنئة للرئيس الجديد، ما سيعتبره الفريق الآخر، بأنه بات محسوباً على واشنطن، بالتالي سيتم التعامل معه ضمن هذا الإطار، وهذا بحد ذاته سيخلف مشهداً أمنياً معقداً.
من هنا، السبب المباشر يعود للولاءات الخارجية، والتدخلات الخارجية خاصة في القرار السيادي العراقي، وسط تهميش لكل صوت يرتفع ويطالب بوقف هذه التدخلات، وإن لم يتم وقف هذه التدخلات، فلا يجب بناء آمال كبيرة على أي تغييرات إيجابية محتملة، بالتالي، السجالات والمعارك الكلامية والعنف في الشارع قد يكون العنوان الأبرز، فلا أحد يتقبل الهزيمة، في بلدٍ فيه رؤساء كثر، يوالون من يوالون، لكن طالما الوطن خارج تلك الولاءات يبقى العراق بلد سلام لم يعرف السلام يوماً ولن يعرفه إذا لم يتم قطع الأيادي التي تحاول تدميره.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.