إن صناعة الإنسان وصقله هي من أهم العطايا التي يتمتع بها الجنس البشري على مر العصور، أن تنشئ إنساناً، فأنت أعددت جيلاً كاملاً من عطاء لا منتاهٍ ولا منقطع، عبر ترسيخ التربية المرتبطة بالأخلاق، والعلم.
وإذا ما ربطنا الماضي بالحاضر، وقارنا بين بين مثقفين الأمس واليوم، نجد الهوّة تتسع والفروقات كبيرة جداً، فلم تنجب النساء نجيب محفوظ آخر ولا طه حسين، ولا كالإمام الغزالي أو الشهيد محمد باقر الصدر والقائمة تطول، لقد تغيّر التفكير العربي الجامع وتحول إلى خصخصة كل شيء بما فيه الفكرة والإبداع، فتحول الشعر إلى آخر جديد مستهلك، لا يشبه شعر عنترة أو المتنبي ولا حتى بدر شاكر السياب أو الجواهري، ليس هذا فقط، بل أصبحت أيضاً إستهلاكية وتجارة رائجة في رفوف ومعارض الكتاب، عبارة عن روابط لكتّاب آخرين ونسخ ولصق مما يقرأون على محركات البحث، مع تغيرات طفيفة لا تعبر عن أي إحتراف إبداعي.
هذا الأمر يدفعنا إلى التساؤل والتوقف لبرهة، وأن نسأل السؤال المهم، لماذا إختفى الإبداع من بيننا؟ بحسبة بسيطة لا تحتاج إلى تفكيرٍ عميق، لننظر إلى مرحلة الإستعمار القديم وما حمله من سياسات الإهتمام بحضارته في البلاد التي إستعمرها على حساب الدول المستعمرة، بدأت من إغراءات النخب للدراسة في الخارج، على إعتبار الداخل فارغ المضمون، فبدل أن ينكب طالب العلم بالإبحار والغوض في بحور حضارته وثقافة أمته، تراه ينهل ويترجم ويأخذ عن حضارة الغرب، وهنا أوكد أني لست ضد أي تحصيلٍ علمي، لكن لا ثقافة وموروث علمي إن لم أعتمد على موروثي القديم وما يحويه ولعل أهم ما لدينا هو اللغة العربية وما فيها من علوم ومال وبلاغة وفن قل نظيره.
لكن إلى متى سننكر هذه الحقيقة؟ ولماذا يحاولون طمس هويتنا وطمس لغتنا، وطمس عروبتنا وطمس حضارتنا؟
لقد جاء الإستعمار ليس محتلاً للأرض فقط، بل جاء مخططاً لنسف الفكر العربي، ونسف القلم العربي، ونسف الإبداع، وجعل المهن الأخرى (المادية) هي العليا، بينما جعل الرسالة التعليمية درجة عاشرة لسببٍ بسيط، هو تحويل الشعوب إلى أدوات تستهلك وتنتج بما يتوافق والمشاريع الغربية، فتحولت دراسات الشباب نحو الإختصاصات العلمية كالطب والهندسة وإدارة الأعمال، وأصبح التفكير منحصراً بالكسب المادي والصعود نحو ربط هذه الأنواع من العلم مع ما تدرّه من أرباح، وجعلوا علامات الإختصاص هي الأعلى، بينما الإختصاصات الأدبية إضمحلت وأصبحت أمراً ثانوياً، على الرغم من أنها هي الأرفع مكانة، وبالتالي، نقدر دور الأطباء والمهندسين ورجال الأعمال وكل الفروع العلمية، لكن الأدب برأيي هو الأول، ولطالما قلت أن الكلمة أبلغ من الرصاصة وأقوى مفعولاً من جيوشٍ زاحفة.
إن هدف الإستعمار الحديث أن ينسف كما أشرت أعلاه الأدب والأدباء، التعليم والمعلمين، لكن هناك مسؤولية تبدأ من الأسرة ومن الأم، وكما قال الشاعر حافظ إبراهيم (الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعددت جيلاً طيب الأعراق)، فمسؤولية الأم والأسرة والجميع هي التربية الصحيحة ومعرفة هوايات وإهتمامات أبنائهم، فلو رغب الأدب عليهم تشجيعه، ولو رغب الطب والهندسة فله ما يريد، فإذا كان الطبيب يعالج الجسد، فالمعلم يعالج الفكر، وأكرر أننا لا نقلل من أهمية أو قيمة أي مهنة من تلك المهن فجميعها مهن نقدّرها، لكن المفارقة العجيبة أن الدول الغربية تولي إهتماماً بالعلم والتعليم والمعلم، على عكس بلادنا، وأكرر أيضاً هذا الأمر هو من ضمن مخطط إستعماري لتهديم العقول والتعليم والتربية، لإضعاف الشعوب للسيطرة عليها والتحكم بها.
أذكر أن القضاة في ألمانيا خرجوا في مظاهرة يطالبون برفع رواتبهم أسوةً بالمعلمين، فكان ردد الحكومة على هذا الطلب بالقول (كيف نساويكم بالذين علموكم)، تأملوا هذا القول، المعلم هو الشخص الذي أعد جيلاً جديداً من المبدعين في مجالاتهم، وفي اليابان فإن المعلم يُلقب بلقب “السعادة” من باب التقدير المعنوي لهذه الشريحة الهامة في مجتمعه، وللدور الهام الذي يقوم به لخدمة مجتمعه وبناء أجيال المستقبل. فما جعل اليابان من الدول المتقدمة هو الاهتمام بالتعليم والمعلم اولاً حيث يأتي موقع المعلم بعد الإمبراطور مباشرة، والجميع يعلم تطور اليابان تكنولوجياً، لكنها لم تتنكر للمعلم الذي هو أحد أعمدة النهضة فيها، قال تعالى: “يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات”.
إذاً، إن رسالة التعليم أهم من المهنة، فرسالة المعلم أولاً هي التربية من ثم التعليم، لكننا وللأسف فنحن نعاني اليوم أزمتين ، التربية والتعليم، فالمعلم مسؤول لأن على عاتقه مسؤولية الأجيال الجديدة، خاصة طلاب وتلاميذ المراحل الأولى، فلنهتم بالتعليم وبالعلم، ونعيد للمعلم هيبته وعنفوانه، وتقديره، قال تعالى: “وقل ربي زدني علماً”.
أخيراً، كان العلم من أهم سمات الحضارة الإسلامية، حيث اهتم القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بالعلم والعلماء، قال تعالى: “إقرأ بإسم ربك الذي خلق”، ومن يعلم القراءة له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في تطوير الحضارة والحفاظ عليها، فلنهتم بالمعلمين وبالأدب وباللغة، ولتكن هي العليا ليعود المجد الكبير لأمة لا يراد لها أن تصعد.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان