يبدو أن السيناتور الأمريكى (الديمقراطى) بيرنى ساندرز أحد رموز الحركة التقدمية الأمريكية كان متفائلاً أكثر من اللازم وهو يتحدث عن فرص النجاح الأمريكية المواتية بعد الإعلان يوم 7 نوفمبر الجارى عن فوز جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطى على منافسه الرئيس دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهورى. ساندرز الذى خاض المنافسة أمام بايدن داخل الحزب الديمقراطى على الرئاسة الأمريكية وفضل خيار أن يتوحد خلف مرشح واحد، أملاً فى أن يتجاوب مع مطالب التيار الليبرالى التقدمى داخل الحزب قال فى تصريحات نقلتها شبكة “سى إن إن”: “نشكر الرب.. لقد انتصرت الديمقراطية. لذلك أتمنى أن يكون جو (بايدن) وكامالا (هاريس) الأفضل فى قيادة بلادنا”. وأضاف “سواء اعترف ترامب أم لا .. ليس مهماً. لقد فاز جو بايدن بالانتخابات وسيتم تنصيبه”.
هل انتصرت الديمقراطية فعلاً؟
السؤال مهم لأنه يفتح المجال لأسئلة أخرى لا تقل أهمية من نوع: ماذا بقى من الديمقراطية الأمريكية بعد كل الصراع العنيف والدامى على السلطة ليس فقط بين الرئيس دونالد ترامب الذى ينكر بضراوة حقيقة، أو حتى فرضية، فوز جو بايدن، ويؤكد أن الانتخابات جرى سرقتها وفق مخطط ممنهج فى معظم الولايات، وبالذات الولايات التى يحكمها ديمقراطيون، على حد قول كبير محاميه رودى جوليانى، ويرفض التنازل عن السلطة ويؤكد أنه الفائز فى الانتخابات وبين منافسه جو بايدن، بل أن الصراع أضحى ممتداً ومتعمقاً بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى، والأكثر من ذلك أنه يتسع أيضاً داخل الحزب الجمهورى بين عقلاء اعترفوا بالحقائق المؤكدة، على نحو ما ذكر سكرتير ولاية جورجيا، بأن “الأرقام لا تكذب” وهو يجدد إعلان فوز بايدن بالولاية بعد إعادة الفرز اليدوى حسب مطالب حملة دونالد ترامب، وبين متشددين انحازوا إلى ترامب، واعتبروا أن كرامة ترامب وفوزه من كرامة وفوز حزبهم على غرار موقف السيناتور ليندسى جراهام (ولاية كارولينا الجنوبية) رئيس اللجنة القضائية فى مجلس الشيوخ الذى دافع عن الرئيس ترامب بعنف وتبرع بمبلغ 500 ألف دولار لمساعدة حملته فى جهودها القضائية للطعن بالنتائج فى الولايات الحاسمة: بنسيلفانيا وميتشجن وويسكونسن ، وقال: “أنا هنا لأقف مع الرئيس ترامب، فهو وقف معى. ولهذا سوف نحتفظ بالأغلبية فى مجلس الشيوخ. لقد ساعد الجمهوريين فى المجلس، ونحن سنحصد مجالس فى مجلس النواب بفضل حملة ترامب”.
كلام خطير لا ينافسه فى خطورته بالنسبة لتعارضه المطلق مع أبجديات القيم والمبادئ الديمقراطية التى يزخر بها “النموذج الديمقراطى الأمريكى” إلا ما ورد على لسان كيفين مكارثى زعيم الأقلية الجمهورية فى مجلس النواب ، الذى لم يكتف بتبنى خطاب الاتهامات بالتزوير فى الانتخابات الذى يردده الرئيس ترامب وفريقه من المحامين وأركان حملته بل أنه اتجه إلى التحريض على العنف كوسيلة لإفشال فوز جو بايدن الذى أكدته أرقام التصويت فى صناديق الانتخابات، مخاطباً المتمردين داخل الحزب الجمهورى ومناصريه من الجماعات اليمينية المتطرفة والمسلحة قائلاً: “لا تسكتوا عن هذا (التزوير وسرقة الانتخابات)، لا يمكننا السماح لهذا بالحدوث أمام أعيننا”.
تحريض ينسف أهم أسس الديمقراطية النيابية أو “ديمقراطية التمثيل” التى ترتكز على “شرعية صندوق الانتخابات”. زعماء الجمهوريين لا يعترفون الآن بـ “شرعية الصندوق” التى هى ألف باء الديمقراطية النيابية، بل يحرضون أنصارهم على ممارسة العنف، لذلك أضحى ضرورياً التساؤل: هل بقى شئ من الديمقراطية الأمريكية؟ وهل هناك أمل فى استعادة المسار الديمقراطى وتصحيح الأخطاء؟
حتى الآن لا توجد غير فرضيتين للإجابة على هذا السؤال الأخير، الفرضية الأولى تقول أن مشاهد العنف والفوضى، والحرب الأهلية ليست إلا مبالغات، وأن هذا كله سوف ينتهى بمجرد إرسال الأصوات إلى “المجمع الانتخابى” أى إرسال أصوات الولايات إلى هذا المجمع، الذى سيحدد رسمياً من الفائز، وهذا الأمر موعده النهائى يوم 14 ديسمبر المقبل، وبعدها سيتم إعلان جو بايدن ونائبته كامالا هاريس الفائزين بمنصبى الرئيس ونائب الرئيس، وأن ما سيتبقى لدونالد ترامب وحملته ومناصريه من الجمهوريين هو مواصلة التقاضى والتحول إلى “معارضة ساخنة” تتجاوز، ربما حدود الأطر الدستورية وبالتحديد البرلمان إلى الشارع استعداداً لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024 على نحو ما سبق أن ألمح دونالد ترامب. أما الفرضية الثانية فتتبنى سيناريو القلق والخوف مما سوف يحدث بعد يوم 14 ديسمبر، الذى يحذر من خطر “انقسام الأمة الأمريكية” وتفجر الصراعات العنيفة، ليست فقط الصراعات السياسية بل بالأساس الصراعات العرقية والطبقية التى قد تمتد حتى إلى صراع بين الولايات.
يدعم هذا التوقع عدد كبير من المفكرين الأمريكيين الذين يرون أن الولايات المتحدة تعانى حالياً من انقسام عميق، وأن النظام السياسى دخل مرحلة “استقطاب” غير مسبوقة، وهذا ما سبق أن حذرت منه صحيفة “الجارديان” البريطانية، فى مقال حمل عنوان “أمة منقسمة بشكل خطير”.
يقول هذا المقال أن الأشهر التى سبقت الانخراط فى حملة الانتخابات الرئاسية هذا العام كانت أسيرة فرضية نظرية تقول أن “دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة ليس إلا ظاهرة استثنائية أو عابرة، وأن هذه الظاهرة سوف تنتهى بانتهاء خسارته للانتخابات لكن النتائج جاءت لتؤكد عكس ذلك” فقد أكدت نتائج الانتخابات أن دونالد ترامب وأن “الترامبوية” (إن جازت التسمية) ظاهرة متأصلة الجذور فى التربة السياسية – الاجتماعية بل وأيضاً الاقتصادية الأمريكية. فعندما يذهب أكثر من 71 مليون ناخب أمريكى لاختيار ترامب، بمعدل يفوق كثيراً ما حصل عليه من أصوات فى انتخاباته السابقة عام 2016 ، فهذا يعنى أن مصالح وأفكار هذه الملايين تتطابق مع ما يقوله ترامب ويروج له، وهو على العكس تماماً من الخطاب السياسى للحزب الديمقراطى وربما أيضاً للحزب الجمهورى الذى بات يواجه فعلياً خطر الانقسام بين تيار تقليدى يحمل الأفكار التاريخية للحزب الجمهورى هو الأضعف وتيار آخر أقوى هو “تيار الترامبوية” أى التيار الذى يرجح أن يقوده ترامب ويخوض به الانتخابات الرئاسية القادمة.
خطورة هذا التيار الجديد أن يفضح حقيقة الانقسام الذى يواجه “الأمة الأمريكية”، فهو تيار لا يقوم فقط على تبنى مصالح طبقات اجتماعية بعينها، ولكنه تيار يعبر عن ظاهرة اجتماعية- ديموجرافية وثقافية. فالولايات والمدن التى صوتت لترامب صوتت له بكثافة يتشابك فيها التراجع الاقتصادى مع هجرة السكان من مناطق العوز والفقر إلى مراكز الرخاء، مع ذوبان الروابط الاجتماعية ورؤية السكان لأنفسهم وهوياتهم فالتصويت الذى حدث لترامب يمكن اعتباره “تصويتاً انتقائياً”، لأن غالبية السكان غاضبين ويعبرون عن الغضب برفض المؤسسات والنخبة.
هنا بالتحديد يجدر التساؤل عن مدى مسئولية نظام “الثنائية الحزبية”: الحزب الديمقراطى والحزب الجمهورى الذى يحكم الحياة السياسية الأمريكية عن هذا الانقسام. فعلى مدى عقود مضت كانت هناك تحذيرات من وجود مخاطر وشرور لنظام الثنائية الحزبية، من أبرزها أنه يشطر الأمة إلى شطرين، وإذا دخلت عوامل أخرى اقتصادية وعرقية وثقافية تغذى هذا الانقسام الثنائى فإن الخطر يصبح مروعاً على نحو ما هو حادث الآن حيث انقسم الأمريكيون فى تصويتهم إلى ما يقرب من 80 مليون صوت فى صف جو بايدن والديمقراطيين و71 مليون فى صف ترامب والجمهوريين. خطورة هذه الظاهرة تتفاقم إذا أخذنا فى اعتبارنا أن الأمريكيين يصوتون فى الانتخابات الرئسية وانتخابات الكونجرس كولايات وليس كأمة. كان المفترض أن تكون التعددية العرقية للمجتمع الأمريكى أحد أهم عوامل إنصهاره كأمة تقبل بالتعددية الفكرية والتعايش والسلمية، ولكن مع وجود فريق يرفض هذه التعددية وينحاز إلى عرق بعينه (العرق الأبيض)، تداعت هذه الفكرة، وتحول التمايز الاقتصادى والعرقى إلى غضب وتحول الغضب إلى نار تحرق معها كل الروابط التى كان مأمولاً أن توحد الأمريكيين، فى تراجع مخيف لكل ما كان يمكن اعتباره مؤشرات ملموسة للفعالية الديمقراطية الأمريكية. هذا يعنى أن الثنائية الحزبية إن كان لها دور فإن الخطر الذى يتهدد الديمقراطية الأمريكية يتجاوز كل فرضيات الهيكلية الحزبية من أحادية أو ثنائية أو متعددة إلى واقع النظام السياسى- الاجتماعى – الاقتصادى والثقافى الأمريكى الذى أضحى مأزوماً إلى أمد غير منظور.
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 24/11/2020