تجادلَ الفلاسفة وعلماء الرياضيات حول هذا السؤال عدة قرون. يؤمن البعض أن علم الرياضيات كوني، في حين يعده آخرون مثل أي نتاج بشري آخر، ولا شك أن الإنسان لعب دوراً بارزاً في تطوير الرياضيات، لكن ما حقيقة هذا العلم ومن حقاً سبر أغواره؟
فمن المعروف أن الرياضيات لغة كونية مجردة، (1+1=2)، نتسخدمها لوصف العالم من حولنا، وهي لغة مستخدمة بين جميع البشر لكنها نختلف من حضارة إلى أخرى، ونجد من التاريخ أن لكل ثقافة فهمها الخاص لعلم الرياضيات، ففي الحضارة البابلية في العراق، اكتشفت ألواح طينية تعود إلى ما قبل 4000 سنة، كانت مدفونة بصحراء العراق، جل ما وثقته تلك المخططوات أن البابليين كانوا عمليين وبارعين في الحساب، وعرفوا كيفية حل المسائل المعقدة بواسطة الأرقام، كان علمهم مختلف عما نعلمه اليوم، إذ لم يستخدموا الصفر أو الأرقام السالبة. وخططوا حركة الكواكب دون استخدام علم التفاضل والتكامل مثلنا، فمثلاً عرف البابليون أن الأرقام 3 و4 و5 مرتبطة بأطوال أضلاع وقطر المستطيل، وعرفوا أيضاً أن هذه الأرقام تحقق العلاقة الأساسية التي تؤكد تعامد الأضلاع، وهذا لا يعني جهلهم بذلك، بل يتعلق الأمر بتطوير هذا العلم، لأن المتحولات الجبرية، والنظريات، والبديهيات والبراهين، وُجدت بعد أكثر من 1000 سنة في اليونان القديمة.
ومما لا شك فيه أن الرياضيات استخدمت زمناً طويلاً قبل الحضارة اليونانية القديمة وفيثاغورث، ولست هنا بموضع التنقيب الشامل عن هذا العلم الذي من المؤكد له أهله البارعين فيه، لكن ارتأيت الولوج إليه من الزاوية الإسلامية، وكيف تطور هذا العلم على أيدي علماء الإسلام، مع التأكيد على جهود الأوليين من أهل الحضارات التي تكت موروثاً قيّماً في مختلف العلوم ومن بينها علم الرياضيات، وكنا شرحنا في عشرات المقالات عن أهمية العلم وحث الإسلام على العلم، ولعل بداية تفتح الذهن الإسلامي للعلم جاء مع مفهوم العلم عند ذكر كلمة اقرأ التي كانت أول كلمة في الإسلام يتلقاها الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، من وحي السماء، وإيماناً بفوائد العلم ورسالة المعرفة التي حث وشجع الإسلام عليها، (إقرأ باس ربك الذي خلق)، فقد تطور علم الرياضيات تطوراً سريعاً على أيدي علماء الإسلام الذين سجلوا ابتكارات رياضية مهمة في حقول الحساب والجبر والمثلثات والهندسة، وقد أثارت أعمالهم إعجاب ودهشة علماء الغرب، وقد أشاد الكثيرون منهم بفضل علماء المسلمين والعرب ومآثرهم الرياضية.
والواقع يقول إن المسلمين برعوا في الرياضيات وغيرها من العلوم، من خلال ما تلقوه من تراث أسلافهم من الرياضيين في مصر والعراق والهند واليونان، ولكن الرياضيات تدين بشطر كبير من تقدمها لعلماء العرب، وبشهادة الغرب أنفسهم مع التقدير لجهودهم أيضاً في تطوير هذا العلم وغيره، فلا بد من ذكر الواقع لكن الفخر الأول لي كإنسان مسلم وعربي يعود للموروث الذي أعرف عن تاريخ الحضارة الإسلامية، فقد اهتم المسلمون بالعلم منذ العصور القديمة ولذلك عمل على ابتكار العديد من العلوم الجديدة التي هيئت إلى تعريفهم على معلومات كثيرة وأوضحت لهم معاريف عديدة لم يعرفوها من قبل، ولذلك قد أطلقوا عليها أسماء عربية استمرت إلى يومنا هذا، مثل علم الجبر، وعلم الكيمياء، وعلم المثلثات، كما ابتكروا المنهج العلمي المستخدم في البحث والكتابة، وهو المنهج القائم على التجربة، والمشاهدة، والاستنتاج، وأدخلوا الرسوم التوضيحية، كرسوم الآلات، والعمليات الجراحية في الكتب العلمية، وبالتالي تم إضافة إلى إنشائهم للقواميس العلمية، والموسوعات المرتبة بحسب الأحرف الهجائية، والتي ساعدت على تميز المكتبة الرئيسية آنذاك باحتوائها على جهاز مختص بالترجمة، وأيضاً جهاز مختص بالنسخ والنقل، بالإضافة إلى جهاز مختص بالحفظ والتوزيع، ولذلك انتشر المترجمون من كافة الأجناس الذين أتقنوا اللغة العربية إلى جانب لغتهم الأم كي يتم توزيع هذه العلوم إلى كل بقاع الأرض.
ووصل تطور الأساليب العلمية إلى أوجه في القرن الحادي عشر فعلى مدى قرون طويلة تقترب من الألف سنة كان العلم على مستوى العالم ينطق بالعربية، درساً وممارسة وتطبيقاً، وذلك إنما يرجع ذلك إلى النهضة العلمية غير المسبوقة في الحضارة الإسلامية تلك التي اهتمت بالعلم وتطبيقه اهتماماً لم تشهده حضارة من الحضارات أو أمة من الأمم، ولعلماء الحضارة الإسلامية تاريخ حافل بالإنجازات والابتكارات الأصيلة التي أفادت منها الإنسانية جمعاء، ونشأ علم الرياضيات أو الرياضة كما كان يقال، في الحضارة الإسلامية، حين بدأ المسلمين يعتبرون أن من أحسن التعليم الابتداء بالحساب من طريق أعمال المسائل لأنه معارف متضحة وبراهينه منتظمة، وذلك للمساعدة في معاملات البيع والشراء بين الشعوب مع اختلاف العملات والموازين ونظام العقود، حيث كان القرن الثالث والرابع الهجري، وكذلك التاسع والعاشر، من الممكن القول إنهم العصور الذهبية لهذا العلم، لأن في هذه القرون ظهر علماء الرياضيات المسلمون، مستفيدين من تراث الأقدمين وتطويره في وقتهم، وحتى الرياضيات الإغريقية لم تصل للعالم المعاصر إلا عن طريق العلماء العرب المسلمين، حيث اعتمدت الترجمات اللاتينية القديمة الإغريقية على مؤلفات إسلامية أكثر من اعتمادها على المؤلفات الإغريقية الأصلية، ونتيجة لهذا انتقل الحساب والفلك الإغريقيان إلى أوروبا بواسطة المسلمين، ولم تقتصر خدمة المسلمين لعلم الرياضيات على حفظ ونقل ما قامت به الأمم السابقة، بل كانت لهم إسهامات هائلة في دقائق وجزيئات هذا العلم.
فقد طور علماء المسلمين الحساب واستخدموه في كل شيء مثل، المعاملات والصرف وتحويل الدراهم والدنانير والأجرة والربح والخسارة والزكاة والجزية والخراج وحساب الأرزاق والبريد والأعداد المضمرة وغيرها، ومن أشهر علماء الرياضيات في الحضارة الإسلامية، الخوارزمي، الكندي، ابن موسى، ابن الهيثم، الأقلديسي، البيروني، السمرقندي، وغيرهم، بالتالي، إن الإسلام أظهر العلم، وجعل له مكانة مميزة تظهر في الكثير من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والتطبيق العملي لجزئياته، فلم يقتصر الإسلام في ذلك على دور التوجيه إلى طلب العلم فقط، بل دعا إلى التماس وطرق أبواب العلوم بشتى المجالات المتاحة، والسعي إليها ما أمكن حتى يصل الناس جميعا بشتى أطيافهم وفرقهم إلى ما فيه مصلحة البشرية، وتيسير أمورهم الحياتية.
بالتالي، إن أعظم هدية قدمها العرب والمسلمون لصالح الإنسانية في مجال العلوم الرياضية، تكمن في تقديمهم للأعداد في صورتها الحالية المعروفة والمتداولة بين أقطار الدنيا، و في هذا الصدد يقول الدكتور “كارل بوير” في كتابه تاريخ الرياضيات: “لو لم يكتشف العرب الأعداد العربية، لكان من الممكن أن تكون الرياضيات في مهدها الآن، ولكن المرء استطاع بفضلها أن يخترع وأن يعرف الطبيعة بأسرها”، فعلم الجبر الذي بلغ فيه العرب درجة كبيرة فقد صنف فيه محمد بن موسى الخوارزمي أقدم مؤلف عربي في الجبر تحت عنوان “المختصر في حساب الجبر والمقابلة”، وكذلك علم الفلك والمثلثات للبيروني الذي تحدثنا عن إنجازاته الكبيرة في ثلاثة أجزاء، أما علم الهندسة تسرب إلى الرياضيات العربية عن طريق ترجمة الأعمال الإغريقية خاصة كتاب “الأصول” لأقليدس ومجاميع “السدهانتا” الهندية، كذلك كان لكل من الجوهري والأبهري والنيريزي وابن الهيثم وعمر الخيام ونصير الدين الطوسي، حيث نقلت أعمالهم إلى اللاتينية والعبرية أساساً، حيث كان لها التأثير الواضح في المؤلفات الغربية التي بدأت في الظهور والانتشار خلال القرون الوسطى في علم الهندسة.
والعلماء المسلمين في عصر الحضارة الإسلامية كان لهم مكانة مرموقة ومهمة في علم الرياضيات، لذا قد أثروه وابتكروا فيه وأضافوا إليه وطوروه، فاستفاد العالم أجمع من الإرث الذي تركوه في بادئ الأمر، جمع العلماء المسلمون نتاج علماء الأمم السابقة في حقل الرياضيات، ثم ترجموه، ومنه انطلقوا في الاكتشاف والابتكار والإبداع.
ومما لا شك فيه أن الحضارة مدينة لعلم الرياضيات الذي تطورت بفضله كل العلوم، الرياضيات وهي التي يعتبرها العلماء ملكة العلوم ولغاتها ليست لغة محايدة، بل إن رموزها تخضع لمدلولات أخرى دينية وفلسفية، وهو ما يمكن أن يفتح باب الاكتشاف والتأمل في علم الرياضيات الحالي، فلا عجب أن تاريخ العلوم عرف انتشاراً كبيراً في ظل الحضارة العربية الإسلامية التي كانت تضم جغرافيات متعددة تمتد من تخوم الصين إلى ثغور الأندلس التي كانت تنعم فيها حضارة إنسانية شامخة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.