في مقال سابق لي بعنوان “عروبة علماء الإسلام”، تناولت فيه أصول العلماء المحدثين الستة، وتعرضت لنقد كثير في هذا الخصوص، رغم أن التحقيقات في هذا الجانب من علماء مخضرمين وكبار بارزين مثل المحقق والمؤرخ العراقي، الدكتور بشار عواد معروف العبيدي الاعظمي البغدادي ، الذي أكد في أكثر من موضع وبالأدلة على هذا الأمر.
وبالتالي، إن المستوطنات العربية التي كانت في صدر الإسلام، إنتشرت في بلاد الأعاجم، وحتى الفرس، الكثير منهم إستوطنوا في العراق والجميع يعلم أن فاتح العراق هو الفاروق، عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه، فالأنساب كان أهلها سواء عرب أو أعاجم يتمسكون بها لا بل يتفاخرون بها، فالدلائل كثيرة على عروبة علماء المسلمين، إضافة إلى أني لا أنكر أعجمية أي علامة ومحدث إن كان أعجمياً، طالما قدم علمه للجميع، فالواقع أن نقول الحق ونوصل الحقيقة، ولا نطرح هذا الأمر من باب التعصب إلى عروبتنا والتي نفخر ونعتز بها بكل تأكيد.
ويتسق مع ما جئت به كلام المحقق عواد، في كتبٍ ومقابلاتٍ كثيرة له توضح تفاصيل عربي العلماء والمحدثين وبالتحقيق والتدقيق، وهو المتخصص في هذا المجال، فلا يعني أن إثبات وجهة نظري أنني أنتقص من الأعاجم بل على العكس، مجرد توضيحات تقتضي التبيان لعدم الخلط والوقوع في الأخطاء، وفي مثل هذه الأوضاع، إن الأخطاء قاتلة، فمثلاً كانت الثقافة في نيسابور في عصر الثعالبي (عبد الملك بن محمد بن إسماعيل (350 هـ – 429 هـ) الذي يُعرف بأبي منصور الثعالبي النيسابوري، وفي غير عصره، كانت ثقافةً عربيةً صرفة، لا يوجد شيء فيها من الفارسية على الإطلاق، وخراسان الآن مقاطعة كبيرة، فيها “طوز ومشهد ونيسابور القديمة”، أما نيسابور قديماً كانت قاعدة خراسان كلها، وكانت واسعة جداً تضم كل من خراسان رغوي أي إيران وأفغانستان وتركمانستان، هذه المناطق كانت من مستوطنات العرب الكبرى”.
هذا يعني أن في تلك المناطق كان هناك قاعدة عربية واسعة سكنت تلك المناطق وإستوطنت بها قد تكون وصلت قبل الفتوحات الإسلامية أو خلالها وحتى بعدها، ما يؤكد قوة اللغة العربية وكثيرة المؤلفات العربية قديماً التي إنطلقت من تلك المناطق، والتي حملت ألقاب المناطق أو المدن أو البلدات التي سكنتها، ولكن بالطبع إن تمازج الثقافات ألقى بظلاله على مؤلفات القدماء وكانت فيها شيئاً مستوحى من الأمكنة تلك، وهذا أمر طبيعي.
وهذه البلاد (نيسابور وخراسان وغيرها) كانت كلها كانت عربية صرفة” مع ملاحظة هامة بأنه سيصدر قريباً للمحقق عواد كتاب يقع في 650 صفحة، أسماه (إيران في ربيع الإسلام)، حيث تناول في هذا الكتاب العلماء الذين لمع نجمهم في تلك المدن، حيث سيبين الكتاب إنتشار اللغة العربية آنذاك، ليس في المدن الإيرانية الكبرى في ذلك الوقت، أي نيسابور وجرجان وهمذان وسيسجتان والأهواز وكرمان، بعد إطلاع وتحقيق واسع، لإستخلاص النتائج التي تدعم هذا الأمر، وهنا لابد أن نتذكر أن الفتوحات الإسلامية وصلت إلى ما بعد الهند وإلى أوروبا (الأندلس)، ووسط آسيا والكثير من المناطق، وبالتالي كما أذكر دائماً تمازج الثقافات لعب دوراً كبيراً في بروز علماء عرب إستقروا خارج بلادهم الأصلية وبرعوا ديناً أو شعراً أو علوماً مختلفة.
فالثعالبي النيسابوري على سبيل المثال، عد له صلاح الدين الصفدي (صلاح الدين الصَّفديّ هو صلاح الدين أبو الصَّفاء خليل بن أيبك بن عبد الله الألبكي الفاري الصَفدي الدمشقي الشافعي. (صفد – فلسطين، 696 هـ – 764 هـ)، فقط 70 كتاباً باللغة العربية وأسماه “جاحظ زمانه”، فعندما كتب الثعالبي المؤلف المشهور “يتيمة الدهر”، وكتب الباخرزي “دمية العصر وعمرة أهل البصر” وكتب العماد الأصفهاني “جريدة القصر في جريدة العصر”، هذه المؤلفات كلها تناولت الشعراء في العالم الإسلامي أكثر من نصفهم كانوا من العرب وسكنوا بلاد الأعاجم، وهذا دليل آخر يوثق عربية من سكن بلاد العجم وكتب بلغته الأم.
أمثلة كثيرة قد تحتاج مقالات كثيرة للغوص في تفاصيل هذا الأمر من الناحية العلمية التوثيقية، وبالطبع لسنا كأهل من برعوا في التحقيق والذين قضوا عمرهم في البحث والتحقيق ولا يزالون، تركوا إرثاً كبيراً في هذا الخصوص ومنهم العلامة الدكتور ناجي معروف رحمه الله (وهو عم وأستاذ المحقق الكبير بشار عواد)، الذي كان لديه كتاباً أسماه (عروبة العلماء المنسوبين إلى الدول الأعجمية)، هذا الكتاب صدر في فترة السبعينات من القرن الماضي، جاء كتابه رداً على ما قاله عالم الإجتماع الكبير إبن خلدون الذي قال: “إن جل حملة العلم في الملّة الإسلامي جلّهم من الأعاجم”، وبحسب الكتاب هذه نظرة قاصرة لأنه لم يعرف أن كثير من هؤلاء العلماء الذين ينسبون إلى البلدان الأعجمية هم من قبائل عربية ولكنهم سكنوا تلك البلاد مع إحتفاظهم بالأنساب، وإلى يومنا هذا إيران وأفغانستان وتركمانستان مليئة بالقبائل العربية. ما يعني أن إبن خلدون كان رائداً في مجاله لكنه كان محدود المعرفة بما يتعلق بالعلوم الأخرى، لإنشغاله بعلمه وهذا أمر صحي وطبيعي، وبالتالي، القبائل العربية مثلاً تجد أصل القبيلة في أرض الحجاز، ولها أقارب في بلاد الشام والرافدين وأبعد من ذلك، فالكثير اليوم من الأسماء نتفاجئ أنها تسكن بلاداً كنا نعتقد أن أصولها منها لنتفاجئ أنها من بلادٍ أخرى، بعضهم من أصول تركية، وآخرين من أصولٍ كردية أو تركمانية، وهنا أتحدث عن الحقبة الحديثة، حتى كارلوس منعم على سبيل المثال الرئيس الأرجنتيني الأسبق من أصولٍ سورية وهذا تاريخ قريب نسبياً، فما بالكم بالتاريخ البعيد، فهذا لا يلغي أنهم تأثروا وأثروا في البلاد التي سكنوها أخذاً ورداً، وهذا عين الصواب.
ومع نشر الإسلام وتوسع الحضارة الإسلامية ودخول الأعاجم بالإسلام وتمازج الثقافات كما أشرت أعلاه، لم يغير حقيقة عربيّة الإسلام الحقّة، وهذا فخرنا ورفعتنا وعزنا، وأما أصحاب كتب الحديث الستة، البخاري والترمذي ومسلم وبن ماجة والنسائي وأبي داوود، كلهم من العرب، سكنوا بلاد الأعاجم، وهم أحفاد الفاتحين الأوائل لبلاد فارس وغيرها، ومن الطبيعي عند سكنهم خارج مناطقهم أن يحملوا أسماء المدن أو القرى التي سكنوها، فمثلاً، البخاري نسبة إلى بخارى وهي مدينة معروفة في أوزبكستان وهو جعفي الولاء ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك بعد القرآن الكريم (أكثر من 300 كتاب عن شرح صحيح البخاري)، الإمام مسلم النيسابوري وهو عربي من بني قشير اليمانية حيث نزلوا نيسابور وسكنوا فيها وهي شمال خورسان الإيرانية وكذلك الترمذي فهو من بني سليم لكنه نزيل ترمذ في أوزبكستان فأطلق عليه الترمذي، وكذلك أبو داوود فهو كندي من كندة من العرب ونزل سيجستان شرق إيران فأطلق عليه السيجستاني وكذلك النسائي فهو نزيل نسّاء وهي مدينة وسط إيران وكذلك إبن ماجة فهو من ربيعة إبن شهر من الأزد.
وأكرر ما تناولته في موضوعات سابقة، نحن كأمة إسلامية، نتقبل الدين والعقيدة الصحيحة الموافقة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من الجميع سواء كان فارسي وتركي وهندي وباكستاني وغيرهم شرط أن تكون صحيحة، لأن هذا هو الأصل في ديننا، لكن تحريف الواقع وتزييف الحقائق فهذا مردود لا يجوز مطلقاً.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان