تلقّت الولايات المتحدة الأمريكية عدة صفعات متتالية مؤخراً، منها الهجوم السيبراني على وكالات أمريكية، وهجوم صاروخي على محيط سفارتها في المنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية – بغداد، وفي الأمس تفجير إرهابي في ولاية تينسي الأمريكية هو الضربة القاضية قبيل مغادرة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب للبيت الأبيض.
يبدو أن الأيام القليلة المتبقية في عهد الرئيس ترامب، ستكون حاسمة لجهة ما يمكن لها أن تحمل من خلطٍ للملفات، فالرئيس ترامب لن يغادر قبل أن يضرب ضربته الكبرى وتحديداً ضد إيران، لكن وبنفس الوقت لن يحصل على موافقة الكونغرس الأمريكي لضرب الدولة الإيرانية تحديداً، ففي ظل ظروف جائحة “كورونا”، والكساد الإقتصادي الكبير الذي تعاني منه الولايات المتحدة، حتى ولو أنها تتبجح بعكس ذلك، فهي أساساً، وفي مجمل الملفات تفتعل صراعات معينة على حدود الدول الصاعدة إقتصادياً لتحطيمها وتسلق واشنطن إقتصادياً.
ترامب يعمل على جر المنطقة كلها إلى حرب قد لا تكون عسكرية بمعناها المتعارف عليه، لكنها حرب مستعرة سيستخدم فيها كل الأسلحة البديلة لعل أبرزها الشكل الإقتصادي منها، وبالطبع الولايات المتحدة أقل المتضررين منها وهذه سياستها المعهودة، فما عليه سوى الإقرار لتتم دفع الفاتورة على الفور ومن جيوبنا نحن العرب، وهذا مأخذ على كل من يصفق ويهلل للغرب وهو لا يدري أنه ممول هذه الحرب لقتل أشقائه في الدين وفي العروبة، وشاهدنا بأم العين تهليل البعض الشامت بالعدوان الإسرائيلي على غزة يوم الأمس، فهم بالأمس وقد يكونون هم في الغد.
أيضاً، قد يكون شكل هذه الحرب على شكل دعم للثورات المضادة (المأجورة والممولة) والتي تخدم أجندة صهيو – أمريكية بكل تأكيد، ولم ننسَ نماذج الثورات العربية الأخيرة التي خرجت عن مسعاها الرامي لإحلال حريات وديمقراطيات وأخذت شكلاً أكثر دموية دخل على إثر ذلك كل الإستخبارات الغربية إلى الأراضي العربية كاليمن وسوريا والعراق وليبيا وحتى لبنان، كله لزرع أنظمة تخدم الغرب وضد شعوبها رغماً عن أنف الجميع، وتراهم الآن يريدون كسر آخر معاقل دعم فلسطين المحتلة من الأنظمة الإسلامية وبعضها قوي، وكسر أي مشروع له ملامح وحدة سواء على مستوى العقيدة أو القومية أو الجوار، لابد من كسره قبل أن يتحول إلى قوة لا يقدرون على ردعها.
فنحن كمسلمون لا يجوز أن نقف مع طرف ضد آخر من إخواننا في الدين أو نظرائنا في الخلق، ففي الغزو الأمريكي على العراق العام 2003 شخصياً كنت مع العراق لكن ليس حباً بنظامها، بل بالعراق العربي المسلم الشقيق، وضد الغطرسة الأمريكية وضد مشروعها الذي اليوم لا يستطيع أحد إنكاره رغم التحذيرات الكبيرة حوله، وها هي النتيجة الآن هي ضعف العراق وتسلط الأمريكيين عليه، لكن المؤكد أني مع كل من أختلف معه سياسياً أو عقدياً أو فكرياُ أو أياً كان خلافي، أضعه جانباً وأعلن وقوفي معه في خندقٍ واحد لأن عدونا مشترك وواحد ومعروف.
وقد تكون الحرب على شكل حرب إعلامية شديدة، كما يحدث اليوم نرى في الإعلام أن الكيان الصهيوني هو الحمل الوديع وكيف يظهرونه على أنه حضاري، من خلال توجيه الإعلام لغسل أدمغة البسطاء من شعبنا العربي والإسلامي، بينما الحقيقة هي عملية قذرة في توجيه هذا الإعلام كسلاح لعب دوراً سيئاً للغاية في إسقاط أنظمة وإعلاء أخرى بحسب المصلحة الصهيو – أمريكية.
بالعودة إلى ما قد يفتعله ترامب في أيامه الأخيرة المتبقية، فإنه سيعمل على حصد أكبر المكاسب الممكنة للتغطية على خسارته للمعركة الإنتخابية الرئاسية، فالبعض يقول في سوريا، سيقوم بضرب إيران، لكن الوجود الإيراني في سوريا لنقل إنه محدود وغير متجمع في نقاط محددة، وأساساً غير معروف الموقع، لكن في العراق، الجميع يعلم حجم الوجود الإيراني في العراق سواء على المستوى الرسمي أم على مستوى الأحزاب العراقية الموالية لإيران ولولاية الفقيه، وهم كثر ولسنا بصدد تسميتهم، لكن هذه حقيقة، فلأمريكا عدد من السيناريوهات الممكن تنفيذها قبل مغادرة ترامب، ومنها:
أولاً، حرب شاملة مستبعدة الحدوث لا من الجانب الأمريكي ولا من الجانب الإيراني، المتوقع أن تضرب واشنطن ضربتها في الداخل العراقي، لكن ليس كحادثة إغتيال الفريق قاسم سليماني، بل المتوقع ضرب موالين لإيران من العراقيين.
ثانياً، تحريك تنظيمات إرهابية وتفجيرات على المسرح العراقي، لتعطيل الإنسحاب الأمريكي، وزعزعة الجزء القليل من إستقرار العراق، وإتهام إيران في ذلك، إضافة إلى تحريك المعارضة الإيرانية المرتبطة بالخارج كمجاهدي خلق في الداخل الإيراني وإشغالهم فيها.
ثالثاً، من المتوقع الضغط على لبنان بشكل أكبر، خاصة مع إعلان بابا الفاتيكان لزيارة مرتقبة إلى لبنان، والتي تبدو أنها تحمل بعض الرسائل، تتعلق بتشكيل الحكومة ودور “حزب الله”، ومسألة سحب السلاح، أو الضغط الإقتصادي الشديد.
وبالتالي هذه السيناريوهات، ليس بعيدة ومتوقعة الحدوث بحسب المعلومات وتطور الأوضاع مؤخراً، فإن حدثت هذا مؤشر لبداية إما تطبيع العراق مع “الكيان الصهيوني” وإذعانه بذلك، مقابل التهدئة وتحسين الإقتصاد، وهو أمر بعيد عن طبيعة العراقيين لكنه إحتمال قائم، أو تقسيم العراق إلى الأقاليم المعروفة، إقليم كردي وسني وشيعي، يتم دعم أول إقليمين ومن ثم إضعاف إقليم الجنوب الموالي لإيران، فتكون واشنطن بذلك أجهزت على العراق ودمرته، وقطعت يد إيران من الداخل العراقي، أيضاً هذه السيناريو مطبوخ بعناية في مطابخ “السي آي إي”.
هنا يأتي دور إيران لقطع الطريق على واشنطن، من خلال تغيير سياستها فيما يتعلق بالعراق، إلى حد مقبول، حتى على الأقل مغادرة ترامب البيت الأبيض، إذ انه مع إنتفاء الذريعة لن يبقى لواشنطن أي حجة لتدمير هذا البلد الذي يعاني منذ العام 2003 إلى يومنا هذا، مع الإشارة إلى أن مجيء الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن وإن كان “إسرائيلي الهوى”، لكن قد يصلح الكثير من الملفات التي قضى عليها سلفه ترامب.
وإلى أن يحدث ذلك، المنطقة على صفيح ساخن وساخن جداً، فالفوضى العارمة المتوقع حدوثها ستفوق بعشرات الأضعاف أحداث ما سمي بالربيع العربي، والعراق لا يريد أن يكون ساحة صراع لا لأمريكا ولا لإيران، فله تجاربه مع الطرفين، لكن النقطة الأهم وهي أن العراق وعلى المستوى الشعبي إلى حدٍّ ما وأنا تحديداً، من الطبيعي الوقوف مع أي دولة إسلامية وعربية بصرف النظر عن إتفاق أو إختلاف وجهات النظر في سياساتها، ضد الغطرسة الصهيو – أمريكية، الواقع أن ننصر أخانا ظالماً كان أم مظلوماً في وجه الإستبداد الأمريكي وشره على المنطقة، فليس من المروءة ولا من الإسلام ولا من الأخلاق أن نقف ضد شعوبنا العربية والإسلامية خاصة في الظروف العصيبة
د. عبدالعزيز بن بدر القطان