لايوجد شيئاً أكثر ديمومة من نظرية المؤامرة في مخيال العقل البشري، ولكل حدث ومستجد مؤامرته الخاصة، فما بالك بعارض صحي يجتاح العالم وتنفق بسببه مئات الألاف من الأرواح الإنسانية في أقل من عام، فالواقع أن أدمغة البشر تسعى إلى تسقيف فكرها أو بالأحرى تستسهل وضع حدٍ لحيرتها وتفضل المحدودية والتنميط، وكالعادة يرجح البعض نظرية المؤامرة، وهذا ما يحدث الأن في العالم كله في خضم تضاد الأراء وانقسامها بين مؤيد لأخذ اللقاح ومتخوف، وعلى مدار التاريخ أثبتت المعطيات سقوط نظريات المؤامرات والاشاعات المغرضة والمشككة والافتراضات والتخمينات المفتقرة للصحة والدقة وبقاء اللقاحات، يبدو جلياً كيف أنقذت تلك التحصينات البشر مما كان يفتك بأرواحهم، فوجود الفيروس قديم بتقادم الوجود، ولكن مراحل مقاومته تطورت بتطور العقل البشري وبتوالي الحضارات والدراسات والأدوات والتقنيات التي ساعدت في تطوير وسائل المكافحة والعلاج والوقاية من تلك الأوبئة والتي قل عدد ضحاياها مع الثورة العلمية في مجال اللقاحات
تلح الحالة وتبرز أن أدافع عن كياني كبشر وجد على ظهر هذه الخارطة الممتدة من الصحراء اللامتناهية، وأثبت إني تجاوزت فكرة الكلاء والمرعى، تجاوزتها منذ حقب وهذا زمن العقل والمنطق، وزمن المترابطات وزمن المتضادات بل هو زمن الترابط بالمضاد، فكيف يخرج من يحمل شهادة في الطب أو الدكتوراة في أحد العلوم الإنسانية ليقول أن كورونا مؤامرة، وأن اللقاح مؤامرة، وأدخل الثالوث المحرم كمتأمر ضده؛ العرق والبيولوجية أو الجنس والدين، ضاربين بالعلم عرض جدران الخرافات والأساطير، ما أشبه اليوم بالبارحة حين كانت تطوف سيارات الصحة باللقاحات لتطعيم الأطفال، وكيف أن أحد الأمهات البسيطات المؤمنات بالتأمر على الإنسانية وابادة النسل قلقت على طفلها “معاذ” وخبأته عن أعين الممرضة واللقاح وهو ابن الخامسة من العمر الممتلئ بالحيوية، ولكن معاذ وأمه دفعا ثمن ذلك الاختباء المؤقت، ليصاب بمغص شديد وصداع وحمى وقيء غير مفسر وهو في الصف الثاني من المرحلة الابتدائية، التي بدأت فيها سلسلة طويلة من الوجع في عام 1992، يمر الطفل بسيل من الارتباكات الصحية والاختلال ليخرج الأطباء بنتيجة بعدها، أن معاذ موعود من بعد اليوم بنصف حياة وبقدر طويل مع الصراع، لقد سلم منه لسانه، ربما لنسمع ألمه ونعلم كم يعاني وهو منكف اليدين والرجلين بمرض يدعى “شلل الأطفال” إذن، لن يعود معاذ معنا بعد اليوم ليمارس بهجته، لن يعود ليخطف عنا كرة “العنبر” ولن نصطاد الفراشات البيضاء والجراد معا في مخارج الحارة ودواخلها، ربما أيقنت بعدها بأعوام، إنني حين كنت أغبط معاذ على أمه التي خبأته عن عدوان الغرباء والتطعيم وأتمتم في داخلي منتقدة بقسوة امي التي قدمتني لهم بطواعية وسكينة، قلت يومها “حظه” ولكن ذلك الحظ العابر تسبب بتحطيمه، والمؤامرة التي خشيت عليه أمه أصابته بويلات كبرى أخذت تبررها بالاحتساب والصبر والابتلاء والقدر المكتوب، متناسية إن ذلك كله كان بمباركة منها واقتناع تام بالمؤامرة وشيطنة اللقاحات وأن ابنها تم حرمانه من أبسط حقوقه في هذه الحياة هي أن يعيش كأي طفل سليم، وتتكرر القصص مع كل وباء ويشكك البعض بكل مستجد، ناسين أن العلم يفتح آفاقا وأن لكل حدث ظرفه، وأن كوفيد-19 جاء ليتحدى العالم، فتحداه العلماء، بكل بساطة لا يبيد البشرية إلا تخلفها، ولنتذكر دائما أن اللقاحات بقت واضمحلت الشائعات، ولكن هناك من فقد حياته لأنه آمن بنظرية المؤامرة وتخشب فكره ودفع الأثمان مضاعفة وبالمجان.
……………..
منى المعولي
٣٠ ديسمبر ٢٠٢٠م