إن نظرية حفظ الدين عند الإمام الغزالي، هي جزء من الجهد الأصولي التأسيسي الذي قام به حجة الإسلام، كما أشرنا في الأجزاء السابقة، وذلك في تطور نظرية المقاصد عبر تاريخها في عقل وفقه المسلمين.
إن نظرة الإمام الغزالي المقاصدية هي التي أسفرت عمّا سمّي بعد ذلك بإسم “نظرية حفظ الدين”، وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ النفس وحفظ العِرض، هذه كلها جاء بها حجة الإسلام معمّقاً فكرة الحفظ، ففي حفظ الدين لا يعني الأمر بأن نقرر عقوبة فقط على الخروج من الدين لأن ذلك نهاية المطاف، كما ان ذلك ليس الغاية والهدف من المقصد الشرعي، فالمقصد الشرعي هو حفظ الدين بإقامته في داخل النفس والمجتمع وفي داخل الحياة الإنسانية ككل، لأن الله تبارك وتعالى جاء برسوله خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزل كتابه ليكون خطاباً للبشري.
الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أرسل رحمةً للعالمين، وما جاء به في كتاب، هو بلاعٌ للناس، فلقد إنتهت بعصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الديانات التي تتعلق بشعب أو قوم أو قبيلة، أو تتعلق بزمن، فجاءت الرسالة الخاتمة التي تتجه إلى كل الناس وتتحرك على كل الأزمنة ويتجه خطابها إلى كل الأمكنة.
ويأتي حفظ الدين كنظرية عند الإمام الغزالي لأن فاعله على النحو المشروح أعلاه، بأن يكون الحفاظ على الدين، بتنزيله وتطبيقه إيماناً وتشريعاً وعقيدةً وشريعةً بحيث يتحول ذلك إلى واقعٍ في حياة الناس، حتى نصل إلى درجة أن نعرف المسلم من أخلاقه ومن حسن تعامله “الدين معاملة وأخلاق”، فالمسلم الحقيقي على سبيل المثال وفي موعد صلاته، إن لم يجد مكاناً له في المسجد، يفترش الأرض مسجداً، “إن الأرض جعلت لنا مسجداَ طهوراً”.
لم يقصد الإمام الغزالي بنظرية الحفظ، مجرد ذكر الجانب الحمائي أو الوقائي الذي يتعلق بتطبيق العقوبات على الإخلال بعملية الحفظ، وإنما أراد حجة الإسلام أن يقيم الحفظ ذاته، ولذلك نجد في حفظ الدين، ليست القضية، قضية أن نعاقب الخارجين عن الإسلام أو الخارجين عن الدين، وإنما القضية الأساسية هي أنه، كيف نقيم الدين في حياتنا؟ وكيف نقيم الدين في أنفسنا؟ وبالتالي هذه هي وهكذا تكون عملية الحفظ، فالإنسان المسلم عندما يصحو وعيه الديني، يستيقظ وجدانه الديني وتصحو إمكانياته العقلية والنفسية إضافة إلى طاقاته كلها، وكلها تتجه إلى طريق واحد، هو طريق العبودية لله تبارك وتعالى.
وبالتالي، نجد أن نظرية الحفظ عند الإمام الغزالي تتحرك لكي “يقوم الدين”، بمعنى أن يصبح الدين سلوكاً عملياً، ويصبح الدين مرتكزاً عقلياً، ويصبح الديت حياة ومنهج، فمن يقرأ حجة الإسلام قراءة متبصرة، يعلم تماماً أن هذا ما يريده حجة الإسلام من هذه النظرية، ولذلك المسلم مطالب بمعرفة دينه بشكله الصحيح وأن يطبقه تطبيقاً عملياً في العبادات والمعاملات، وبالتالي هذه العملية تصبح سلوكاً مٌعاشاً في واقع كل مسلم. فمثلاً إن كان المسلم بائعاً “لا يغش”، و “لا يطفف الميزان”، وإذا كان أستاذاَ يؤدي واجبه على أكمل وجه سواء مع طلابه أو زملائه، وإذا كان مزارعاً يقوم برعاية حقله، فهكذا يكون شكل عملية الحفظ لمن يقيم دينه مقاماً صحيحاً وبالتالي نركز على كلمة “سلوك”.
والجدير بالذكر أن عملية حفظ الدين ليست حكراً على علماء الإسلام والمتخصصين فقط، بل هي تخص الإنسان العادي أيضاً، فالعالم يستنبط الأحكام، ويوجه الإنسان العادي إلى سلوك التطبيق الخيّر ويرشده إلى الطريق، أما التطبيق العملي فهو مناط بكل شخص وإتباع سلوكه في هذا الشأن، وبالتالي العالم لا يقيم الدين، “أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه”، كل في نفسه، أي هي عقيدة التوحيد القائمة على إفراد الخالق تبارك وتعالى في العبادة والطاعة.
إن تطبيق الفرائض يؤدّى بمواقيت وحدود ألا تتعارض مصالح العمل مع مصالح أداء العبادة، كل ذلك لابد أن يسير في طريقٍ متناغم ومتناسق، هكذا يكون حفظ الدين، فمثلاً عامل البناء الذي يؤدي وظيفة متقنة لستر الناس في مساكنٍ تقيهم البرد والحر، تراه مغبرّاً ويرتفع إلى طوابق عالية لبناء ما يبنيه، وعندما يحين موعد الصلاة، ينزل مفترشاً الأرض ومصلياً خاشعاً لله تبارك وتعالى، وقاطعاً عمله لدقائق معدودة، ومن ثم يعاود عمله، إذا تمعنّا قليلاً بهذه الوظيفة لوجدنا أن حفظ الدين يكون هكذا، فلم يقطع هذا العامل عمله، مغادراً موقع العمل إلى المسجد ليغيب نصف ساعة أقل أو أكثر، بل أدى الفريضة دونما تأثير على العمل، وبالتالي هذا الأمر من سلوكيات الدين الذي وضحه الإمام الغزالي، وحفظه وأقامه كل مسلم وتراه في الإنسان البسيط والعادي أكثر من أي شخص آخر.
إن حفظ الدين يكون من خلال الحفاظ على علاقة الرحم، لأن الله تبارك وتعالى نهى عن قطع صلة الأرحام، وإن من أفضل العبادات التي نتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى هي أن نصل أرحامنا، لأن هذا الأمر هو جزء من حماية الدين، هذا هو التكافل والترابط الإجتماعي، من ضمن إقامة الدين، الإحساس بالآخرين، وأن يقوم الإنسان بأداء دوره بإتقان، قال تعالى: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”، من خلال تكامل منظومة الإتقان، من خلال تأدية كل شخص لعمله بإتقان.
وبالتالي إن مقاصد الشريعة الإسلامية وأحكامها، قد تم تطبيقها في الحياة الإنسانية، وهذا هو المعنى الصحيح لنظرية حفظ الدين للإمام الغزالي، أي بقاؤها قادرةً على تسيير حركة الحياة الإنسانية بما يكفل للإنسان الخير في الدنيا وفي الآخرة، لأن الإنسان في هذه العلاقة المباشرة يجني في دنياه ما يغنيه للآخرة، والصلة بين الدنيا والآخرة هي صلة عضوية، فالعقاب هو مناط فقط بكل شخص فرّط بدينه في الدنيا.
لقد طور الإمام الغزالي نظرية حفظ الدين وجعلها حركة في إحياء علوم الدين، من خلال حفظ الدين بمعنى الإقامة، والتحريك والتفعيل لهذا الدين، وأن تُصنع الحياة على ضوء أحكام هذا الدين، هذا ما قام به الإمام الغزالي في نظرية الحفظ، حجة الإسلام عندما تكلم عن حفظ الدين، تكلم بصفة عامة، ولكنه أيضاً يرعى حقوق غير المسلم في الحفاظ على دينه، فالحفاظ على الإسلام لا يكون بالإعتداء على دينٍ آخر، من الأديان السماوية، لأن أي إعتداء هو غير مشروع من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، فمن يعيش في المجتمع المسلم من الأديان الأخرى، له الحق في تأدية عباداته وفرائضه على النحو الذي يطلبه دينهم، كما المسلم تماماً، فهذا الأمر هو أيضاً جزء من نظرية الحفظ، لأن الأديان السماوية تتكامل ولا تتصارع، والمسلمون جميعاً يؤمنون بكل الأديان السماوية، لأن الإنسان المسلم، يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا الإيمان هو الذي يجعله مسلماً.
وبالتالي، حتى يكون الإنسان مسلماً ومؤمناً لابد أن يدخل من بوابة الإيمان بكل ما أراده الله تبارك وتعالى، وحتى تصبح نظرية حفظ الدين التي أشار إليها الإمام الغزالي، مستقرة في قلب المجتمع المسلم، لكي تصنع مجتمعاً متضامناً ومتآلفاً، حتى لو تنوعت أديانه أو طوائفه، أو تنوعت إثنياته.
من هنا، إن المقصد الشرعي أساساً من أسس التماسك والتلاحم بين أبناء المجتمع الواحد، وبالتالي تتم تأدية الدور في صيانة الحياة الإنسانية من خلال الحفاظ على الدين الذي سوف يتجسد بالضرورة إلى الحفاظ على العقل لأنه لا يمكن أن يقوم من يحافظ على دينه بأن يشرب الخمر، أو يتاجر بالمخدرات، فيأتي حفظ العقل كنتيجة طبيعية للحفاظ على الدين، وبالتالي إن تكامل منظومة الحفظ من خلال حفظ الدين التي تنعكس على إستقرار كل الحياة الإنسانية آمنة ومطمئنة، وهذا هو مقصد الشريعة الإسلامية العام بالنسبة للإنسانية جمعاء.
وللحديث عن كتاب المستصفى للإمام الغزالي لا بد من ذكر بعض النقاط حوله لأنه لا يقل أهمية عن الكتب الرئيسة الأخرى، (لقد سلك الإمام الغزالي في ترتيب مباحث أصول الفقه مسلكاً بديعاً لم يُعهد في زمانه ولا قبل زمانه؛ وذلك لما منحه الله تعالى من جودة الذهن ودقة الفهم وتعمق في العلوم العقلية والمنطقية، يُعتبر كتاب المستصفى اختصار لكتاب ( تهذيب الأصول)، وهو يبحث في أصول الفقه الإسلامي، ويُعد علم أصول الفقه ركيزة من علوم الشريعة، إذ من خلاله يتوصل إلى الاجتهاد على أكمل وجه، ولا يمكن للفقيه أن يستغني عنه، فهو أصل الاجتهاد، ومن خلاله يتم الولوج إلى معرفة الأحكام الشرعية).
حيث ذكر حجة الإسلام “معنى أصول الفقه وحدَّه وحقيقته، ثمَّ مرتبتهُ ونسبته إلى العلوم، فيوضح معنى الفقه (عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع)، وأمّا تعريف أصول الفقه (عبارة عن أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام، من حيث الجملة لا من حيث التفصيل)”.
وهذا أمر تعلمه الإمام الغزالي من خلال أستاذه إمام الحرمين “الجويني”، الذي يعد أحد عمالقة الفقه والفكر الإسلامي، الذائع الصيت علماً، واعترف بفضله القاصي والداني، وأثنى عليه السابقون واللاحقون والمحْدَثون إلى يومنا هذا، وكنت ذكرت في مقالٍ سابق أن إمام الحرمين بقريَّ زمانه -وما بعد زمانه- في العلوم التي تجمع بين العقل والنقل، وهي: علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف.
وله الكثير من الكتب، (ففي علوم أصول الفقه: التلخيص، والبرهان، والتحفة، والورقات، وفي علم الفقه: نهاية المطلب في دراية المذهب، ومختصر النهاية، والرسالة النظاميَّة في الأركان الإسلامية، وله في الخلاف والجدل: الأساليب، والغنية، غنية المسترشدين، والعُمد، والدرَّة المضيَّة فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، والكافية في الجدل).
وفي (السياسة الشرعية: الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم)، وفي علم الكلام: الشامل، والإرشاد، واللمع، وشفاء الغليل، والعقيدة النظامية، والكثير غير ذلك).
أخيراً، لا بد من الوقوف والثناء على أساتذتي الأفاضل من علماء الإسلام الذين أعتز بشهاداتهم وملاحظاتهم، وأتوجه بالشكر والعرفان لهم فرداً فرداً، على كل الدعم والمحبة المستفيضة، سائلاً المولى عزّ وجل أن يمنحهم العمر المديد والصحة والعافية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان