كان الشيخ الندوي أحد العلماء والدعاة الأفذاذ في هذا العصر، تلقى العالم الإسلامي كتبه بالقبول، ابتداء من كتابة الفريد الشهير (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، وهذا الكتاب أول ما عرفه به العالم العربي، فيه نظرة تاريخية حضارية شمولية إلى الإسلام وأمته وحضارته وثقافته وتاريخه.
علي أبو الحسن بن عبد الحي بن فخر الدين الحسني، ينتهي نسبه إلى الإمام الحسن ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، ولُد عام 1914، في قرية تكية كلان الهندية، والده مؤرخٌ مشهورٌ ومعروف وهو الطبيب عبد الحي الحسني مؤلف كتاب “نزهة الخواطر وجنة المسامع والنواظر”، المقسم إلى 8 مجلدات من كبار أعلام المسلمين في الهند، وبالنسبة للقب “الندوي” هو لقب يُطلق على كل من التحق بندوة العلماء في الهند، وهي مؤسسة دينية عريقة تخرج فيها الكثير من طلاب العلوم الإسلامية ولها أثرٌ كبير في الحالة الإسلامية في الهند.
في رسائله إلى المسؤولين الهنود، اقترح الندوي عددا من الحلول التي تساهم في إنهاء الاضطهاد والعنصرية، وكان يراعي الحالة الطائفية والعرقية في البلاد، فكان يتكلم في رسائله بشكل عمومي، يُبين للقارئ أنه يبغي بحديثه كل أبناء الهند، فطالب بعلمانية دولة الهند وحكومة لا تتدخل بالدين أياً كان، كما أنه وجه نصائحه باستغلال دور الإعلام وتفعيل مهمته الأساسية بعدم نشر الكراهية والعنف والعنصرية، كما دعا إلى معالجة الفساد الإداري والخُلقي.
ولنقارن بين حالة الأمس واليوم حتى الإسلام خارج الأمة العربية، نجد أن هناك محاولات ممنهجة للقضاء على كل ما هو إسلامي، من دور عبادة أو مدارس إسلامية سواء في الهند أو غيرها، لطمس كل الدلائل على أن الإسلام كان رائداً في عصورٍ خلت، فإن أقام الغير دور عبادتهم فهي حرية دينية، أما إغلاق الدور الإسلامية الحجج تكاد تفوق الوصف.
نظرة جديدة للتاريخ من خلال رؤية إسلامية، فهو يرى أن العالم خسر خسارة كبيرة بتخلف المسلمين عن قيادة ركب الحضارة. حينما قاد المسلمون ركب الحضارة الإسلامية قدموا للإنسانية رسالة حضارية متوازنة، تجمع بين العلم والإيمان، بين الرقي المادي والسمو الروحي والأخلاقي. رسالة وصلت الأرض بالسماء، وجمعت بين العقل والقلب، ومزجت الروح بالمادة، ووازنت بين حق الفرد ومصلحة المجموع. ووضَح فيه كيف كانت حال أوروبا، عندما كان المسلمون في القمة كانت أوروبا في الحضيض.
الراحل، صاحب مؤلفات أنطقها الله على قلمه وصدق رؤيتها عبر بيانه، رباني عاش عابدا زاهدا مجاهدا، ومات مؤمنا متقنا متقيا، رحل مثل يوم الأمس في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1999، واسمه محفور في خفايا الضمير، ولا نبالغ لو قلنا إنه رجل بمدرسة خرجت عدة شباب ينتمون إلى القرون الثلاثة الأولى، بإيمان لا يلين وقلب لا يستكين، وروح تحيى في سبيل المبادئ والأصول.
للراحل إرث كبير وعظيم يحتوي على أكثر من 200 مؤلف، في اللغة العربية والعشرات في اللغة الفارسية والأردية، وعلمٌ وفير تكلم عنه العلماء وأُلفت من أجله الكتب والمصنفات، هذا ما تركه العالم الهندي الشيخ أبو الحسن الندوي، الذي بلغت شهرته الآفاق ووصل مرتبةً قلّ من أنجزها من أقرانه في عصره وزمانه، فكانت حالته فريدة وما أعطاه لأمته ومجتمعه كان لا يقدر بثمن، كانت نشأة أبو الحسن على العلوم الشرعية والدينية، نتيجةً للعلوم الكبيرة التي جمعتها عائلته، إذ إنه تأثر منذ صغره بمجموعات الكتب والمجلات في منزله، يقول أبو الحسن عن والده: “كان يشتري كثيراً من الكتب، وكان المؤلفون والكتاب يبعثون بمؤلفاتهم إليه أيضا، فكان ينظر في كثير من هذه الكتب والرسائل والمجلات نظرة ثم يضعها في جانب، ويستغنى عن بعضها، فكنت أفتش في هذه الكومة التي كان يستغنى عنها عن الرسائل والمجلات وفهارس الكتب، واختار منها، وكان هناك دولاب مفتوح في صحن البيت، فأضع هذه الكتب فيه وأصفّفها وقد هيأت لافته لهذا الدولاب كتبت عليه مكتبة أبي الحسن علي”.
وفي رحلته الدعوية، سافر الشيخ أبو الحسن الندوي إلى كثير من البلدان في الوطن العربي وأوروبا، للمشاركة في العديد من المؤتمرات والنشاطات الدعوية، فكان نشيطاً لا يقف في مكان بل دائم الإبداع، وعمل الشيخ الندوي على تعزيز الإسلام في النفوس قبل أن يفكر باعتلاء الحكم وتبوء المسلمين للمناصب، فأقل ما يمكن أن نحيي هؤلاء العظماء بتخصيص الندوات وتفعيلها سنوياً ليبقوا حاضرين بيننا وهم الحاضرون في قلوبنا.
من مآثر فقه الدعوة عند الشيخ أبي الحسن
“إسمعوها مني صريحةً أيها العرب: بالإسلام أعزَّكم الله، لو جُمع لي العربُ في صعيدٍ واحد واستطعت أن أوجّه إليهم خطاباً تسمعه آذانهم، وتعيه قلوبهم لقلتُ لهم: أيها السادة! إنَّ الإسلام الذي جاء به محمد العربي صلى الله عليه وسلم هو منبع حياتكم، أبى الله أن تتشرفوا إلا بانتسابكم إليه وتمسُّكِكُم بأذياله والاضطلاع برسالته، والاستماتة في سبيل دينه”.
قالوا عنه:
قال الشيخ علي الطنطاوي عن الشيخ أبو الحسن الندوي: “أبو الحسن بنى للإسلام في نفوس تلاميذه حصونًا أقوى وأمتن من حصون الحجر، بنى أمة صغيرة من العلماء الصالحين والدعاة المخلصين”، وقال عنه الشيخ محمد الغزالي: “هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلِّقَة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظَّ لها فيه… لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغةً جديدةً، وروحا جديدةً، والتفاتا إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها”.
رحم الله الشيخ علامة الهند أبي الحسن علي الندوي وأسكنه فسيح جناته.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان