عندما تختلط مشاعر الخوف بمشاعر اليأس فى أجواء يسودها الإرتباك وعدم اليقين عندها يمكن توقع حدوث تطورات درامية لا تحكمها حسابات العقل أو حتى حسابات “المكسب والخسارة”، ومن هنا جاء التلويح الإسرائيلى والأمريكى بما أسموه بـ “الحرب الخاطفة” ضد إيران، إعتقاداً، ربما يكون خاطئاً، بأن مثل هذه الحرب، إن حدثت، يمكن أن تطرح “مخارج إنقاذ” للقيادة المأزومة فى كل من واشنطن وتل أبيب. وإذا كان مشهد مثل هذه الحرب يمكن تلمس معالمه فإن ما يصعب تحديده هو مآلات وتداعيات ما بعد هذه الحرب على الأطراف المتصارعة من ناحية، وعلى دول إقليم الشرق الأوسط وفى القلب منه عالمنا العربى من ناحية أخرى، ومن هنا تتكشف فداحة الصمت، والأكثر فداحة “التحفيز” من جانب أطراف عربية للدفع بمثل هذه الحرب، إعتقاداً أنها، أى الحرب، يمكن أن تؤدى إلى الخلاص من كابوس “الخطر الإيرانى”.
فالرئيس الأمريكى المنتهية ولايته دونالد ترامب لم يعد أمامه شئ ليفعله إزاء ما يراه انفضاض الحلفاء والأصدقاء الجمهوريين عنه مع اقتراب إنتهاء ولايته بعد أقل من ثلاثة أسابيع من الآن إلا اللجوء إلى ما يمكن تسميته بـ “تغريدات اليأس” حيث كتب فى تغريدات خلال الأيام الأربع الماضية يحث فيها أعضاء الحزب الجمهورى بالكونجرس “للتصعيد والنضال” دفاعاً عن الرئاسة التى تفلت من بين أيديهم لتؤول إلى الديمقراطيين. وكتب فى أحد تلك التغريدات يقول أنه “حان الوقت لأعضاء الكونجرس الجمهوريين للتصعيد والنضال من أجل الرئاسة مثلما كان سيفعل الديمقراطيون إذا كانوا قد فازوا بالفعل”.
قال ترامب ذلك بعد أن كال الانتقاد والتجريح لمكتب التحقيقات الفيدرالى ووزارة العدل والمحاكم الأمريكية “لعدم قيامهم بأعمالهم وواجباتهم المتعلقة بالانتخابات”، ويعنى هنا إثبات أن “الانتخابات جرى تزويرها” لصالح جو بايدن .
مشاعر اليأس هذه من تلاشى أى فرصة أمام ترامب لإستعادة الرئاسة التى تفلت من بين يديه حفزت كثير من المراقبين إلى التساؤل عما إذا كانت المغامرة فى الخارج بشن حرب على إيران يمكن أن تحقق له ما عجز عن تحقيقه من خلال مئات الطعون فى نتائج الانتخابات ومحاولاته المستميتة لدفع أعضاء الكونجرس الجمهوريين لرفض النتائج التى جرى حسمها لصالح جو بايدن فى تصويت “المجمع الانتخابى”. الذين يتساءلون عن ذلك لديهم ما يعتقدونه بأن ترامب لم يعد أمامه الآن من سبيل لمنع جو بايدن من تولى الرئاسة يوم 20 من يناير المقبل إلا الحرب على إيران كذريعة لإعلان الأحكام العرفية للبقاء فى البيت الأبيض.
ربما يكون هذا التوقع صحيحاً أو غير صحيح لكن الصحيح بالتأكيد هو أن ترامب يرفض بشدة عودة الولايات المتحدة مجدداً إلى الاتفاق النووى الموقع مع إيران عام 2015 مع دول “مجموعة 5+1” بما فيها الولايات المتحدة، وهو الاتفاق الذى انسحب منه ترامب فعلياً فى أغسطس 2018، وأعاد فرض العقوبات الأمريكية التى كان قد تم تعليقها بعد التوقيع على هذا الاتفاق وفرض غيرها العشرات من “العقوبات المشددة” فى رهان لم يستطع كسبه وهو إجبار إيران على التوقيع على اتفاق جديد يحقق كل الشروط الأمريكية، إن لم يكن إسقاط النظام الإيرانى نفسه.
العودة الأمريكية المحتملة لهذا الاتفاق، ومن ثم إلغاء كل العقوبات التى فرضها ترامب على إيران تعنى “حدوث الخطر” بالنسبة للرئيس ترامب، وهو ما لا يمكنه السماح به، ولذلك فإن خيار الحرب على إيران خلال الأيام القليلة المقبلة قبيل انتهاء ولايته قد تؤدى إلى نتيجتين مقبولتين ومأمولتين الأولى هى إرباك كل حسابات جو بايدن مع إيران والحيلولة دون العودة الأمريكية للعلاقات مع إيران، والثانى هى تحقيق ما ظل يحلم به من طموحات لتدمير المنشآت النووية الإيرانية.
هذا الاستنتاج يجد ما يدعمه من تغريدات للرئيس ترامب الأسبوع الماضى كشفت أنه يبحث عن أية ذرائع لشن هذه الحرب، وأنه إن لم يجد هذه الذرائع فإنه لن يتردد عن افتعالها ، تغريداته التى هدد فيها إيران عقب الهجمات الصاروخية التى وقعت على المنطقة الخضراء قرب السفارة الأرميكية فى بغداد يوم الأحد (20/12/2020) كشفت عن ذلك رغم تبرؤ إيران وإدانتها لهذه الهجمات، حيث قال أن إيران “ستكون مسئولة عن مقتل أى جندى أمريكى فى العراق وسيكون هناك رد فعل فورى وكبير”. فى ذات الوقت كشفت منصات إعلامية أمريكية من بينها شبكة “سى إن إن” أن القيادة العسكرية الأمريكية عقدت إجتماعاً سرياً فى البيت الأبيض الأربعاء الماضى (23/12/2020) لبحث سيناريوهات الرد فى حال إقدام إيران على عملية انتقامية لاغتيال الجنرال قاسم سليمانى الذى تقترب ذكراه السنوية خلال أيام.
يحدث هذا فى ظل كثافة الوجود العسكرى الأمريكى بالخليج بعد الدفع بغواصة تعمل بمحركات نووية تحمل فى جوفها 265 صاروخاً من طراز “توما هوك”، وبحاملة الطائرات “يو اس نيميتز” والعديد من البوارج الحربية وقبلها إرسال الطائرات القاذفة العملاقة B52 للاستعراض قبالة الشواطئ الإيرانية، يتزامن هذا مع ما أكدته مصادر أمنية رفيعة فى تل أبيب من احتمالة نشوب صراع عسكرى بين الولايات المتحدة وإسرائيل وبين إيران قبيل دخول الرئيس الأمريكى المنتخب جو بايدن إلى البيت الأبيض.
فقد كتب عاموس هرئيل خبير الشئون الأمنية والعسكرية فى صحيفة هآرتس استشرافاً لما هو محتمل خلال الأسابيع الثلاث المقبلة قال فيه أنه “مازالت هناك حسابات دراماتيكية مفتوحة بين إيران والولايات المتحدة مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الجنرال قاسم سليمانى وبين إيران وإسرائيل المتهمة باغتيال العالم النووى محسن فخرى زاده”. عاموس هرئيل الذى تحدث عن توجه غواصة إسرائيلية نحو مياه الخليج ذكر أن رئيس الأركان الإسرائيلى الجنرال أفيف كوخافى أوصل رسالة تهديد إلى إيران إن هى قامت بنشاط ضد إسرائيل، وأن كوخافى “هدد برد قاسى ضد إيران”، مشيراً أيضاً إلى أن بنيامين نتنياهو رفع وتيرة تهديداته إلى إيران ورفع سقف هذه التهديدات متوعداً بأن إسرايل “ستعمل كل ما فى وسعها من أجل منع إيران من الحصول على السلاح النووى”.
الحديث المطول الذى أدلى به “هيداى زيلبرمان” المتحدث باسم جيش الاختلال الإسرائيلى إلى موقع “إيلاف” الجمعة الماضية (25/12/2020) جاء ليؤكد أن إسرائيل تخطط مع الولايات المتحدة لمنع إيران من ارتكاب أى مغامرة انتقامية مع اقتراب الذكرى السنوية لاغتيال جنرالها قاسم سليمانى.
زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال مارك أميلى إلى إسرائيل مؤخراً واجتماعه مع رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية أفيف كوخافى بمشاركة عدد من القادة العسكريين الإسرائيليين كشف موقع “والا” الاستخباراتى الإسرائيلى أنها ركزت على المشروع النووى الإيرانى والوجود الإيرانى فى سوريا ، ومشاريع الصواريخ الباليستية والتحديات الأمنية المشتركة التى سيواجهها الجيشان الإسرائيلى والأمريكى عام 2021، كما كشف عن وجود “توافق كبير بين الجانبين.. لكنه ليس تاماً” حول الأوضاع المتعلقة بالقضية الإيرانية وطرق إدارتها.
فهل يمكن الرهان على أن القيادة العسكرية الأمريكية ستفرض “كوابح” لشطحات ترامب ورجاله المنساقين له فى البنتاجون وتقاوم أشباح الحرب التى أخذت تلوح فى الأفق، استعداداً لأجواء عمل أفضل مع الرئيس الأمريكى الجديد، واحتواء خيار ما يلوح فى الأفق من “حرب خاطفة” تجد من يدقون طبولها أملاً فى “خلاص” يبدو أنه محض أوهام ؟
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 29 / 12 / 2020