برز التدوين في المناقب منذ زمنٍ قديم من تاريخ الإسلام، لكنه كان تدويناً عاماً لكل ما نقله الرواة ضمن ما سمعوه أو شاهدوه، فجاءت موضوعاً في مواضيع الموسوعات الحديثية، أو تسجيلاً للسيرة في كتب التاريخ والتراجم، أو موسوعات خاصة تحت عنوان المناقب أو الفضائل.
كان الحفّاظ والكتّاب ينقلون ما سمعوه، بغثّه وسمينه، وصحيحه وسقيمه، وبصورة شاملة تضم الصحابة والتابعين أحياناً، ولهذا تجد في الموسوعات الحديثية أسماء الصحابة مدرجة تحت عنوان مناقب فلان أو فلان، وقد لا يقوم المعنون إلا بحديث أو خبر يستشم منه رائحة المدح أو الثناء أو حتى التقرير على فعل أحياناً.
من المقدمة أعلاه، نستعرض كتاباً للشيخ سليمان بن ابراهيم خواجة، حامل اللقب “سيدي خواجة”، وهو سليمان بن إبراهيم، المعروف بخواجة كلان ، بن محمّد بابا خواجة بن إبراهيم بن محمّد بن الشيخ ترسون الباقي البلخي القندوزي الحنفي، المولود ببلخ سنة 1220 هـ – 1294 هـ، وهو من أعلام المتصوفة، فقيه وعالم، من أصول حنفية.
اسم الكتاب “ينابيع المودة لذوي القربى” ويعتبر هذا الكتاب من الكتب الجامعة في باب المناقب والفضائل المتعلقة بذات عَلَمٍ من الأعلام، ويعد كتابه جامعاً لجملة كتب جمعت فضائل ومناقب أهل البيت عليهم السلام، كذخائر العقبى، ومناقب الخوارزمي وابن المغازلي وجواهر العقدين للسمهودي وفرائد السمطين للحمويني، إلا أن لديه تصوف مبالغ فيه، لنستطيع القول إنه من غلاة المتصوفة الذين يبالغون في مسائل الكرامات وغيرها، إلا أن “سيدي خواجة” لديه ولع وهيام بآل بيت النبي عليهم السلام، فجمع كل الأحاديث في كتاب واحد أسماه “ينابيع المودة”، هذا الكتاب أكثر من نصفه عبارة عن روايات مردودة بين ضعيف ومنكر وشاذ، ولا إسناد له.
ويظهر أن للشيخ خواجة في موضوع “مودة ذوي القربى” كتاب آخر سماه “مشرق الأكوان”. فلقد أراد الشيخ أن يكون له موسوعة تضم مناقب أهل البيت عليهم السلام، إلا أنه لم يصل لهدفه المنشود، وإن كان بشكله الحالي يكاد يكون موسوعة، لأنه ضم كتب عديدة، وقد اعتمد المؤلف على أمهات المصادر وله تخاريج جيدة، أما منهجية الكتاب فيها شيء من الارتباك وعدم الوضوح في توزيع الأحاديث على الأبواب، لم يلتزم المصنف بنقل النص بدقة وبعين اللفظ من مصادره غالباً، أكثر المؤلف النقل عن “المناقب” حيث يقول: “وفي المناقب” مثلاً، ولم نجد ما أخرجه في كتاب واحد يعتبر مصدراً.
وعندما يتم الإتيان بأحاديث لا بد من العلم بصحتها وضعفها، وعلى أحوال الرجال، والأسانيد بعد البحث حال الحديث من حيث القبول وعدمه، وقديما قال أهل العلم: “من أسند لك فقد أحالك”.
في هذا الصدد تحدث الكثير من العلماء الإسلاميين عن ذلك، ومنهم من قال: “أغلب الأحاديث في كتاب “ينابيع المودة” ضعيفة أو لا أصل لها، وكثيراً ما ينقل من كتب مثل الكتب المخالفة لمنهج أهل الحديث، أو يبتر الأحاديث في فضائل الصحابة، فعلى سبيل المثال بتر حديث “أثبتكم على الصراط أشدكم حباً لأهل بيتي ولأصحابي” أصل الحديث في “الكامل لعبد الله بن عدي (365 هـ) الجزء6 صفحة302” ونقله لحديث ضعيف “أثبتكم على الصراط أشدكم حبا لأهل بيتي” (ينابيع المودة الجزء2 صفحة 474).
يلاحظ في هذا الكتاب من الناحية العلمية، كثرة الأخطاء، مثل، “ولما كانت مودتهم على طريق التحقيق والبصيرة موقوفة على معرفة فضائلهم ومناقبهم، وهي موقوفة على مطالعة كتب التفاسير والأحاديث التي هي المعتمد بين أهل الحديث والأثر. وهي الكتب الصحاح الستة من: البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبي داود وابن ماجة” وبالتالي يكون الصحيح أن لفظة الصحيح لا تطلق إلا على صحيح البخاري ومسلم.
أما عن بعض نزعات التصوف في الكتاب، تتضح معالم هذه النزعات منذ الوهلة الأولى لقراءة الكتاب، ففي مقدمة الكتاب عبارات صريحة تدل على أن مؤلف الكتاب أبعد ما يكون عن منهج أهل السنة. من ذلك قوله: (الحمد الله رب العالمين، الذي أبدع الوجود، وأفاض الجود، وأظهر شؤونه، وأبرز نوره محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل خلق خلقه).
في حين أن النصف القليل الموجود في كتاب “ينابيع المودة” لا يُستغنى عنه، في نقول من كلام علماء الصحابة، ويُعتبر بعضها صحيح، الشيخ خواجة وعلى الرغم من أنه توسع في كتابه هذا، فمن الممكن استخراج خلاصة تهذيبية منه بما يعادل ربع الكتاب، هذه الخلاصة مستندة إلى نقولٍ صحيحة وحسنة.
الشيخ خواجة، عالم من العلماء الجهابذة في تصوفهم وفي حنفيتهم وفي فقههم بالطبع، لكن وبسبب ما وضحنا أعلاه لا يعد في عداد المحدثين لقلة بضاعته في تمييز صحيح الحديث من ضعيفه وهذا لكونه من الغلاة في التصوف، كون “بدعة محمودة” لا تسقط رواية صاحبها إلا أن يكون مغالياً، وسيدي خواجة سليمان بن ابراهيم من الغلاة في التصوف، لذلك لا يعد من عداد المحدثين ولا تقبل روايته أو حديثه إلا مبيناً.
أخيراً، إن أهل البيت عليهم السلام مكانتهم عظيمة لدى كل مسلم، لكن لا بد من التفريق بين التقبل العاطفي والعقلي والنقلي، ومن باب المحبة لهم أو لأي راوي وصحابي وغيرهم، لا بد من تحرّي الصدق، بما ينقل عنهم مع تحييد العاطفة والوجد وتمكين العقل من أداء دوره، الدين لا يُؤخذ بالعواطف، بل يُخذ بالعقل والدلائل والبراهين، قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز في خطاب للمخالفين من الديانات الأخرى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)، فهذه الآية الكريمة هي منهج علمي يجب أن يستند عليها كل رجل مؤمن وصادق من أصحاب مدرسة النقل، قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى).
لكن ومع ذلك نحن نحسن الظن بكل كاتب بتصوفه وحريته فيما يكتب، فالاختصاصات هي فنون لها أهلها، فمن يتدخل في غير اختصاصه يبرز خطأه وبالتالي دورنا تصيب الخطأ بما لدينا من أدلة وبراهين.
إن الأحاديث تحتاج إلى اتصال السند وعدالة الرواة، وضبطهم وعدم الشذوذ والعلة، فالحديث لغةً هو ضد السقيم، وأما إصطلاحاً هو كلّ حديث اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، وهذه احكام مثبتة لكل عالم ديني يريد أن يجعل مؤلفاته موسوعية تكون مقصد كل طالب علم.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان