إنَّ الطفل المغربي “ريان” أهدى الأمة العربية جملة من العبرات والمواعظ، فبكم رياناً قد ضحّت هذه الأمة، ولم يرف لها جفنٌ عندما تخرج الأمور عن سياقها الحقيقي، وتغلف بالدين والمذهبية والسياسة والمصالح التافهة، ولكن في غفلة من كل تلك الموانع المُصطنعة، وحّد ريّان المغربي في غمرة عاطفية إنسانية جيَّاشة كل أمة العرب من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي وبحر العرب، فصارت أمة واحدة متآزرة، وتخفق قلوبها بالألم والهم والدعاء لريان، وقد نسيت وتناست خلال 43 ساعة التي قضاها ريان العرب جميعًا، في غياهب جب على عمق 30 مترًا فقط، فالكل صار ينظر إلى ريان وكأنه فلذة كبده هو، قبل أمه وأبيه المغربيين، ويتنهد بحسرة تنهيدة واحدة، وغصة في قلوبهم جميعاً بسبب تأخر إنقاذ ريان.
الكل ظل يحس ويشعر بألم الطفل ريان، ويشعر بجوعه وعطشه وبرده ونزيف دمه، وجزعه وخوفه من الوحشة التي كان يعيشها، وهو في ذلك العمق من الأرض، برغم ما كان يُحيط به من أطياف بشرية، امتدت من أقصى عُمان في الشرق العربي، إلى شمال المغرب على ضفاف المحيط الأطلسي، وقد أسدل الستار على هذه الملحمة العربية العفوية، وذلك بمجرد أن تمَّ إخراج ريان من قعر ذلك البئر الرهيب، ثم تعود الصحوة السلبية للأمة العربية، فتعود لترتكز في مهاوي ما كانت فيه من قبل، وتطايرت العواطف وتبددت في غمضة عين، فيعود الشتات إلى الشتات السائد المحزن، وحتى الإعلان عن ووفاة ريان لاحقًا لم يأت بذلك الأسى والنَّدم الذي حصل، في وقت من الغفلة اللاشعورية، والتي سمحت باجتياح تلك العاطفة الطارئة للجميع، ووقتذاك لم يكن ريان مغربياً بعيد الانتماء عنهم.
أحقًا نحن العرب تجمعنا المصائب، وتفرقنا الدعة والاسترخاء، فتعود شياطيننا إلينا بمجرد أن نخلد إلى الراحة والهناء، إذن علينا أن نشغل النَّاس بالعمل، والدعاء إلى الله أن يبقينا في طاعته، وذلك بدوام التضرع إليه عزَّ وجلَّ، أما البعد عنه والاشتغال بالنعم والرفاهية، فإنِّه ينسي الإنسان الشكر والذكر.
فمن العبرات التي خلفتها لنا قصة الطفل ريان، تقول لنا إن التمارين والتخطيط على الإنقاذ أمر مُهم، فلا يُمكن إغفاله وإن كان احترازيًا، فلو كانت هناك تمارين قد جرت مسبقًا، لكانت فرق الإنقاذ أخذت أكثر من مسار، فعلى سبيل المثال، لو اتجه فريق من المُنقذين إلى استخدام المناظير “والروبوتات” لربط الطفل من تحت إبطه، ومحاولة جذبه بالحبل من قعر البئر، أو حتى البحث عن طفل نحيل الجسم، ويتم توريده مقلوبًا لسحب الطفل بيديه، أو تكليفه بربط حبل الإنقاذ حول جسم الطفل بعد الشرح له ذلك، فهذه طريق أسرع من الثقب الموازي على عمق 30 مترًا مثلًا، فاليوم هناك عمليات طبية تجرى للإنسان وبالمناظير، وهذا عمل يمكن إجراؤه بإنزال دمية محشوة بثقل يوازي ثقل طفل متوسط البنية، فنحن نقوم بإنقاذ أناس سقطوا من الجبال، وكذلك ننقذ غرقى من الأودية، والبرك المائية والبحار ومن آبار عادية، ولكن الصعوبة تكمن في الآبار الثقبية، وما أكثرها اليوم.
ومن المواعظ كذلك؛ أن نحدث نظامًا يلزم من يحفر بئرًا ثقبيًا، أن يضع له نظام حماية، بحيث يمنع سقوط الإنسان، وحتى الحيوان في هذه الآبار، ونحن في عُمان بدأ هذا النظام ينتشر بكثرة في بلادنا، لكن دون ضوابط واضحة، ولا ننسى أن هناك شركات قامت بمشاريع في طول البلاد وعرضها، وقد حفرت آبارًا ثقبية كثيرة لحاجتها للماء، وعندما ينتهي المشروع، تترك الشركة تلك الآبار دون إغلاق محكم، ولا حماية تمنع الناس من إعادة فتحها، وإن هي تركت عليها غطاءً سهل الإزالة، فلا يعد مانعًا للمخاطر، إضافة إلى “ثقِاب الأفلاج الداودية” التي تحتاج إلى تغطية بأسلوب لا يمنع تسلل الضوء والهواء والأكسجين إلى داخل الفلج، كما جرت الحاجة إلى تلك الفتحات، فتظل فاتحة فاهها لمن تزل به قدمه فيقع فيها، أو للحيوانات البرية الوادعة فلا تعرف الحذر من فجوات كهذه الفجوات، وقد سبق لحوادث كثيرة إن وقعت في مثل هذه الثقاب، أكانت لبشر أو حيوانات.
وإذ نعود إلى ريان صاحب القصة، والتي بموجبها توحد العرب بقلوبهم وعواطفهم على مدى 43 ساعة التي مكثها هذا الصبي في البئر، فبعد هذه الساعات القليلة من الإنسانية والوداعة، نجد هذا الإنسان العربي، وبعضهم مسلم من الدرجة “الممتازة” كما يزعمون هم على الأقل، فيعودون ليقتلوا الإنسان العربي، وهم بوسعهم تركه حيّاً، إذن كم رياناً وريانا قتل أو سيقتلون في الأيام القادمة من أبناء فلسطين، وذلك بدعم مباشر من العرب.
كم ريانًا وريانا سيقتلون مباشرة بيد العرب من أهل سوريا والعراق وليبيا، ومن أبناء اليمن الأكثر وضوحًا اليوم والأقرب على هذه الأمثلة الحية؟ وذلك بدم بارد ودون أي ذكر لهم في الإعلام العالمي، وبطائرات عربية رشيقة وجميلة ومخيفة بنفس القدر، وعليها أعلام عربية نعرفها جيدًا، أترتجف قلوبنا حسرة وندمًا على ريان المغرب، ونحن صادقون في ذلك، ولكن هناك ألف ريانٍ وريان سيقتلون بعد قليل، فلا قلب يرجف ولا عين تذرف ولا نفس تأسف حسرة وندمًا عليهم، أليس هذا هو النفاق بعينه، وقد توعد الله أصحابه بالدرك الأسفل من النار.. والعياذ بالله.
اللَّهُمَّ إنيّ بلغت، وكتبتُ وقلتُ واعترضتُ بقلبي ولساني، وكل مشاعري ووجداني، وبأخوّتي العربية والإسلامية والإنسانية، فلا تجعلني من أصحاب الدرك الأسفل يا ربّ العالمين، اللَّهُمَّ أحفظ عُمان وشعبها وسلطانها من السوء والمكايد وحسد الحاسدين وجور الجائرين، وكل بلاد المسلمين.. اللَّهُمَّ آمين يا رب العالمين.
حمد بن سالم العلوي