في تتمة لموضوع القانون الجنائي الإسلامي ومقاصد الشريعة الإسلامية، والذي يتمحور حول مواضيع رئيسية ثلاثة كما تحدث عنها علماء القانون الجنائي، وهي: الجريمة – المجرم – الجزاء.
أولاً، الجريمة: إن البداية تكون في دراسة أهلية المجرم وعناصر مسؤوليته، أما الأمر الثاني، فهو دراسة أركان الجريمة، بحسب كل فقيه، فهناك من الفقهاء من يجعل للجريمة ثلاثة أركان، الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وهناك اتجاه يرى أن الجريمة لها فقط ركنان، وهما الركن المادي والركن المعنوي، وأما النص الذي يسمّى بالنص الشرعي، هو وعاء لهذين الركنين، فلا يُعتبر ركناً مستقلاً وبالتالي هو الذي يضم هذين الركنين داخل البناء القانوني.
ثانياً، الجزاء الذي يترتب على ارتكاب جريمة ما، وبالنظر إلى ذلك من زاوية مقاصدية نجد أن الأساس فيها هو المجرم، لأن الجريمة هي فعل للمكلف الذي يقوم بهذه الجريمة في الواقع الاجتماعي فلا جريمة من دون فعل، فعند البحث عن الركن المعنوي، نبحث عن إسناد هذا الفعل إلى ذلك الشخص الذي ارتكب الجريمة، وحينما نبحث عن الركن المادي، نكون نبحث عن العلاقة السببية بين النتيجة الإجرامية وبين الفعل أو السلوك الذي قام به ذلك المجرم. وعند الحديث عن العقوبة، فالحديث هنا عن العقوبة التي تقع على ذلك المجرم على اعتباره هو المسؤول.
وبالتالي، إن الإنسان الذي يخرج على القانون، هو محل القانون الجنائي وموضوعه وأساسه. ويبقى موضوع الجريمة وموضوع الجزاء تقسيم لاعتبارات علمية وليس لاعتبارات تتعلق بجوهر البناء القانوني المتعلق بالقانون الجنائي، فالقانون الجنائي يوجد حيث يوجد الإنسان المخطئ، ويختفي حيث يختفي الإنسان المخطئ.
إن المعصية من وجهة النظر الاجتماعية هي فعل طبيعي، لأنه لا يوجد مجتمع خالٍ من الجريمة، لكن المعصية من وجهة النظر الفردية هي فعل استثنائي يحتاج إلى تدخل معين من جانب المجتمع، ليدافع عن نفسه وعن نظمه ومقاصده وتشريعاته ودينه وغير ذلك، لأن الأصل في ذلك، ألا يخطئ الإنسان، لكن المعصية بمعناها العام هي ظاهرة اجتماعية، لأنه ما من مجتمع من غير أخطاء أو يوجد فيه ناس معصومين عن الخطأ.
في المفهوم الإسلامي من منظور المقاصد، هناك ثلاثة عناصر تتعلق بالجريمة والمجرم والجزاء، العنصر الأول يتعلق بالمجرم، لا يمكن أن يصبح الإنسان مجرماً إلا إذا كان أهلاً لارتكاب الجريمة، وهنا لا بد من البحث عن أهليته، لأن مسؤوليته كما أشرنا أعلاه مشتقة من هذه الأهلية، وبالتالي الصغير غير مسؤول جنائياً وكذلك المجنون، فالأهلية هي من العقل وأساسها الاختيار قبل القول إن هذا شخص مسؤول عن جريمته التي ارتكبها، وبالتالي لا بد أن يكون مكلفاً، ولذلك يفرّق الإمام الغزالي (أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الصوفي الشافعي الأشعري، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، 1058 م – 1111 م)، في كتابه “إحياء علوم الدين” بين المعصية والمنكر.
يرى الإمام الغزالي أن المنكر هو كل محظور يقع في الشرع سواء جاء من صغير أو كبير، فمن الجانب الموضوعي هذا الأمر مخالف للشرع، كالصغير الذي يؤذي أخاه الصغير، فهذا منكر وبالتالي خطر على المجتمع، ولكنه ليس معصية يعاقب عليها الصغير، لأن المعصية كما يقول عنها حجة الإسلام، إنها التي يعاقب عليها الشرع بحدٍّ أو تعذير، وبالتالي، إن الجوهر الأساسي هنا هو المسؤولية، هذه المسؤولية هي مسؤولية دنيوية، لأن المسؤولية عند الله تبارك وتعالى لها أدلتها ولها طرقها المختلفة، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: “ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين”، أما في الدنيا، يُحاسب الناس بحسب الأدلة البشرية.
الأمر الآخر المتعلق بمنظومة القانون الجنائي، من وجهة النظر المتعلقة بمقاصد الشريعة الإسلامية حمايةً لمنظومة الحفظ التي تعني أن هذه المسؤولية هي مسؤولية شخصية، لا عامة، لكن ذلك ليس سمةً تتعلق بالشريعة الإسلامية وحدها، بل هي قانون إلهي عام، يصبح الخروج عليه، خروج عن قانون من قوانين الله تبارك وتعالى، قال تعالى: “قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون”، فهذا مقياس إلهي عام، لأن الله تبارك وتعالى فرض العدل على نفسه، وفُرض العدل على العباد، وذلك لتحقيق مصالحهم، وبالتالي إن النقطة الأساسية والجوهرية أن القاضي الجنائي لا يعمل بالأدلة المجردة مثل القاضي المدني، بل لا بد أن يقتنع وهذا ما يسمونه في علم القانون الجنائي “الإقناع” وعنها أتت قاعدة (الشك يفسر لمصلحة المتهم).
وهذا الأمر، في الإسلام ليس بالشأن الخطير لأن الله تبارك وتعالى لن يترك مُداناً دون أن يعاقبه أمام محكمةٍ عادلةٍ يوم القيامة، ولكن في ميزان عدل الدنيا، لا يحكم القاضي لو أن في ذهنه ذرة شك، لأن المسؤولية هنا، مسؤولية شخصية والعقوبة هنا، عقوبة شخصية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان