قد يتسائل البعض، ألا يوجد في نظام الشريعة الإسلامية، القانون الجنائي الإسلامي، نظام “الديّة”، (العاقلة تحمل الديّة)، فهل حمل العاقلة يأتي استثناءاً على هذه القاعدة، وهنا يجب التفريق بين من تجب عليه الديّة ومن يدفع الدية.
من تجب عليه الدية هو الجاني وحده لأنه هو الذي ارتكب المعصية، أما من يدفع الدية فقد يدفعها الجاني أو فرداً من عائلته أو أهل عاقلته من الديوان، أو الدولة بحكم التكافل الاجتماعي، وبحكم أن هناك في الإسلام ما يجعل أن كل إنسان مسؤول عن صاحبه ومسؤول عن غيره، فلو أن الغني أعطى الفقير لما جاع، ولو أن الأب أعطى عنايته لأبنائه لما ضاعوا، فهناك مسؤولية تكافلية عند حدوث هذا الأمر على رجلٍ ليس قادراً على دفع الدية في ماله فإنها تنتقل إلى الآخرين، ولذلك يجب اعتبارها تطبيق من تطبيقات قاعدة شرعية (إذا تعذّر الأصل، انتقل الأمر إلى البدل)، على الرغم من النصوص القرآنية التي تتحدث عن العاقلة وعن الدية، لكنها تتحدث بإطلاق.
وما يعطي أهمية وميزة كبيرة للشريعة الإسلامية، تتعلق بأهمية العقاب وبضرورته، ولذلك هناك قاعدة شرعية تقول (لا يطل دمٌ في الإسلام)، أي لا يضيع ولا يُهدر دم إنسانٍ حتى ولو لم يعرف قاتله، ومن هنا جاء نظام القسامة في النظام الجنائي الإسلامي، (هو أيمان يحلفها أولياء المقتول، ويستحقون بها في العمد القود أو الدية على خلاف في ذلك، وفي الخطأ يستحقون بها الدية)، ويعتبر هذا النظام شديد الحداثة، وكما أشار الإمام القرافي لأن هذا (دم معصوم)، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: “ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق”، فالمبادئ القرآنية لا تتعارض مع بعضها البعض، وبالتالي الشرع واضح في هذه المسألة، قتيل دون معرفة قاتل، لا يهدر دم القتيل، ويقسم الفرد ومن ثم تدفع الدية، ولا يضيع دم المقتول، تطبيقاً للقاعدة أعلاه، واحتراماً للنفس الإنسانية.
يقول الإمام الرازي (أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي الرازي، الطبرستاني المولد، القرشي، التيمي البكري النسب، الشافعي الأشعري الملقب بفخر الدين الرازي وابن خطيب الري وسلطان المتكلمين وشيخ المعقول والمنقول، 1149 م – 1210 م)، في كتاب التفسير الشهير (مصابيح الغيب)، في تفسير قول الله تبارك وتعالى: “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً”، إن الأمانة هنا عرضت عرضاً، ولم تفرض فرْضاً وذلك لبيان قيمة الإرادة الإنسانية في اختيار الخير أواختيار الشر، وأنه وفق هذه الإرادة يتم حساب الإنسان، ولذلك إذا كان مجنوناً فلا يُسأل، هذا التعبير بعد التأمل يليق بعالم أوصولي ومشرّع إسلامي كبير كالإمام الرازي، هذا الأمر يعبر أيضاً عنه الإمام سري السقطي الصوفي (أبو الحسن السَرِيُّ بنُ المُغَلَّسِ السَّقَطِي إمام وشيخ وأحد علماء الدين المشهورين بالورع والزهد في القرن الثالث الهجري. وهو تلميذ معروف الكرخي، وخال الجنيد وأستاذه، تـ 772 م)، بعبارةٍ جميلة ومعبّرة “إن الله لا يحاسبك لماذا مرضت ولكن يحاسبك لماذا ضجرت) أي لماذا يئست من رحمة الله تبارك وتعالى، وقال تعالى في القرآن الكريم: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً”.
ومن هنا كان ذلك من الرخص الشرعية سواء في المجال الجنائي أو في مجال العبادات أو مجال المعاملات، وبالتالي نحن أمام متن أصولي يضبط نظرية الفعل الجنائي ويضعها تحت أضواء المقاصد الشرعية لتكون قادرةً على أداء وظيفتها، وهنا يجدر السؤال، ما هي وظيفة النص الجنائي عند علماء القانون وعند علماء الشريعة؟
إن الوظيفة تتعلق بأمرين اثنين، الأول، منع خاص ويعني منع المجرم من العودة إلى ذات الجريمة التي ارتكبها، لأن العقوبة رادعة، والأمر الثاني، منع عام، ويعني مثلاً من أسباب الانفلات في المجتمعات العربية أن القانون لا يطبق، ومهمة تعلم القانون في أيامنا هذه ليس إحقاق الحق، بل إيجاد الثغرات للتفلت من تطبيق القانون، وبهذا تكون عقوبة المنع العام منع المجتمع من أن يقدم على ارتكاب الجرائم لأنه رأى أن الذي ارتكبها عوقب بجريمته، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”، فهكذا تكون وظيفة العقوبة عندما تطبق في المجتمعات وتؤدي وظيفيتها الخاصة والعامة.
وبالتالي نكون قد طرحنا العناصر الأساسية التي يتعلق بها القانون الجنائي وهي محل اهتمام كبير من كل علماء القانون والفقهاء، وهنا كان الحديث عن هذا الجانب من جانبه الموضوعي لا الإجرائي، والإسلام كان له عناية كبيرة ودقيقة في الجانب الموضوعي دون إغفال الدانب الإجرائي بالطبع.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان