في 11 يناير 2021م.. وبعد مضي عام كامل على تولي صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله الحكم في عمان؛ صدر نظام أساسي جديد للدولة، بمرسوم سلطاني رقم (6/2021)، ملغيا النظام الأساسي للدولة الصادر برقم (101/96) بتاريخ: 6/ 11/ 1996م، معلنا -«دستوريا»- بداية الفصل الثاني من الدولة الحديثة. والنظام الأساسي الجديد لم يأتِ ناقضاً للنظام الأساسي القديم، وإنما جاء تحديثاً له ليواكب المرحلة الجديدة التي تمر بها السلطنة، ولذلك.. أرى ضرورة قراءته بعمق، وتحليله بموضوعية على كافة المستويات: السياسية والاجتماعية والقانونية والدولية، فهو النظام الذي تحتكم إليه السلطنة؛ سلطاناً وشعباً، دولةً وحكومةً، قانوناً ومؤسسات.
من القضايا التي حددها النظام الأساسي للدولة بالتفصيل «ولاية العهد»، والتي لم تكن حاضرة في النظام القديم، وإنما نص على آلية انتقال الحكم في حال شغور منصب السلطان بطريقة لا تفصح عن الحاكم الآتي، وهي طريقة تحمل التوجس على الصعيد المحلي، والتساؤل على الصعيد الدولي، وهو تساؤل أسمعه بنفسي من بعض المفكرين والمثقفين عندما أشارك في محفل دولي، وكنت أكتفي بالرد أن الدولة قوية بما يكفي لانتقال السلطة بأسلوب سلس، وكنت ألحظ عدم الاقتناع، إلا أنني كنت مطمئناً من انتقال السلطة بطريقة أمينة، وهو ما حدث فعلاً ولله الحمد.
إن نص النظام الأساسي للدولة على ولاية العهد وتفصيله فيها ضروري لاستقرار الشأن الداخلي وتبديد القلق على مستقبل السلطنة، ومهم كذلك دولياً؛ حيث إن الاستقرار السياسي والاستثمارات الاقتصادية والحصانة الأمنية تقوم على مواد واضحة في انتقال السلطة في حال شغور منصب السلطان.
لقد نصَّ هذا النظام على ولاية العهد بالمواد (5-6-7-8).. ويتداول الآن نقاش في الساحة العمانية حول مدى اتفاق ولاية العهد مع التقاليد الإباضية؛ بكون الإمامة الإباضية حكمت عمان عهداً طويلاً، يرى البعض أن ولاية العهد لا تتفق مع هذه التقاليد؛ وهو رأي جدير بالنقاش وفقاً للمعطيات السياسية والدينية والتاريخية التي قامت عليها الإمامة في عمان.
لقد قلت في موضع آخر: إن نظام الدولة الحديثة مختلف عن النظامين السياسيين السابقين اللذين حكما عمان قبل عام 1970م: الإمامة والسلطنة، فالدولة الحديثة قامت على نظام المؤسسات والقانون الذي يشارك فيه الشعب وفقاً لما يحدده القانون، أما نظام السلطنة سابقاً فكان يقوم على الحكم المطلق للسلطان، ونظام الإمامة يقوم على ما يقرّه الفقهاء، وقد تميّز هذا النظام عن نظيره بـ«مبادئ دستورية» عرفت بـ«سيرة المسلمين». لقد استفاد النظام الأساسي للدولة بنسختيه من تجارب النظامين السابقين، دون أن يربط نفسه بتقاليدهما، ومع ذلك.. ففكرة الخروج عن تقاليد الإباضية في ولاية العهد غير دقيقة، وذلك.. لأن الإباضية قد عملت بهذه الفكرة تبعاً لتجربة الاستخلاف التي أُخذ بها منذ أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب.
الإباضية.. هي إحدى المدارس الثلاث الكبرى في الإسلام:
– الشيعة: التي رأت أن الحكم نصٌّ في البيت العلوي، وتوقفت هذه النظرية بغياب الإمام الثاني عشر محمد المهدي (ولد:255هـ).
– السنة: التي تبنت النظام الملكي السائد عالمياً، لكنها حصرت المُلْك في قريش، وقد انتهت هذه النظرية مع سقوط الدولة العباسية سنة 656هـ.
– الإباضية: التي رأت أن يُختار للحكم المسلمُ الأكفأ لسياسة الناس بالعدل، وفق رؤية فقهية، بدون شرط النسب، وقد انتهت هذه النظرية في منتصف القرن الميلادي المنصرم.
فإذاً.. نظريات الحكم التقليدية؛ غير ملزِمة -إلا على جهة الاستفادة منها- لنظام الدول الحديثة لدى المسلمين، فقد تجاوزها الزمن، ولم تعد قادرة على تسيير أمر المجتمعات.
من الناحية الدينية.. لم يكن نظام الإمامة هو البديل اللازم الذي جاء به الإسلام ليَجِبَّ غيره من أنظمة الحكم، بل هو نظام من الأنظمة التي سلكها المسلمون. ولأجل ديناميكيته ومواءمته لظروف الاجتماع المتحولة؛ فقد عاش أطول من النظامين الآخرين، ولكنه مقارنة بالنظام الملكي العام؛ فهو لا يشكّل إلا حقبة محدودة.
وإذا نظرنا إلى الوضع العماني.. فقد أقرّ النبي الأكرم النظام الملكي زمن عبد وجيفر ابني الجلندى عندما دخلا الإسلام. وقد استمر النظام الملكي -والذي سيُدعى بالسلطاني؛ لاعتبارات دينية كذلك- مع نظام الإمامة، ولم يسجل التاريخ أن إمامة ثارت على سلطنة قوية، أو سلطنة ثارت على إمامة قوية، بل كان كل منهما يقوم عند تفرق الأمة العمانية وانهيار دولتها، وكانا بذلك يشكلان دورة الحكم، أو كما سماها جون ولكنسون بـ«دورة الإمامة». وقد يصبح النظام «مدمجاً» بين معطيات الإمامة والمُلْك كما في الدولة اليعربية، أو تتحول الإمامة إلى سلطنة كما في الدولة البوسعيدية، فالنظام السياسي هو لرعاية مصالح الناس بمقتضيات عصرهم.
من الناحية التشريعية.. وهي ليست منفصلة عن الناحية الدينية، فقد ركّزت الإباضية على العدل في الحكم، وهو ما أسميه بـ«العدل الاجتماعي»، ويمثل المحور الأساس للإباضية؛ وتأتي سائر القضايا الكلامية – نسبة لعلم الكلام – لاحقة عليه، والعدل لديهم يختلف عنه لدى المعتزلة الذين شهروا بـ«أهل العدل والتوحيد»، فالعدل لدى هؤلاء هو «عدل إلهي» منبثق من الجدل الكلامي، وليس من الوضع الاجتماعي، كما هو الحال لدى الإباضية.
فالإباضية.. بالأساس يَجهَدون في تطبيق العدل الاجتماعي بكونه مبدأً أساسياً في الإسلام، فعندما حكم الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز (ت:101هـ) -زمن أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي- رضوا بحكمه، ولم يعارضوه رغم كونه أموياً.
ومن الناحية التاريخية.. عندما يكون الوضع السياسي أنسب بأن تكون هناك وصاية في الحكم في البيت الواحد؛ فنظام الإمامة يأخذ بها، كما حصل زمن الدولة الرستمية بالشمال الإفريقي، والدولة اليعربية في عمان، وفي كل الأحوال.. دون التخلي عن «جماعة الحل والعقد» لضمان تطبيق العدل -والذي يكفله الآن النظام الأساسي للدولة- المبدأ الأساس التي قامت عليه الإباضية.
وأما نظام الحكم ذاته -والذي يرمز له بلقب منصب الحاكم- فهو أداة فقط لتطبيق العدل، يقول الفقيه سالم بن حمود السيابي (ت:1993م): (فإن المعتمد على الأعمال لا على الألقاب، فإن لقب الإمام أو الخليفة أو السلطان -ونحو ذلك- لا معوّل عليه في جانب الحق، إنما المعوّل على الأعمال الصالحة).
ولذلك.. فمن الناحية العملية؛ عاش الإباضية مواطنين في الدول التي لا تأخذ بنظام الإمامة، لهم ما لسائر المواطنين من حقوق، وعليهم كغيرهم من الواجبات، وأسهموا في تحرير أوطانهم من الاستعمار كما في الشمال الإفريقي، ووقفوا بقوة ضد تقسيم الاستعمار الفرنسي للجزائر، ولم يحصل أن أفتى أي عالم إباضي بعدم شرعية أنظمة هذه الدول؛ قديماً وحديثاً بسبب تركيبة النظام.
فالقول بعدم تقيّد النظام الأساسي للدولة في نصه على ولاية العهد بالتقاليد الإباضية غير دقيق بالنسبة للرؤية السياسية والدينية والتاريخية التي مارسها الإباضية أنفسهم وأقرها علماؤهم على طول التأريخ الإسلامي.
إذاً.. لكي نحكم على النظام الأساسي للدولة في هذا الجانب؛ علينا أن ننظر إلى المبدأ الثابت الذي لا يجوز أن يتغيّر، وهو العدل، وليس إلى الآليات التي من طبيعتها التغيّر وفقاً للأوضاع الاجتماعية التي يحكمها النظام السياسي، لقد نصّ النظام الأساسي للدولة على العدل، المبدأ الأعلى للإباضية، وهو مبدأ قرآني قبل ذلك، مضافاً إليه الشورى والمساواة؛ وهما فرعان عن العدل، ونافَ النظام الأساسي على ذلك لتحقيق العدالة بالتنصيص على مشاركة المواطنين في الشؤون العامة، حيث نصت المادة (١٢) بأنه: (يقوم الحكم في الدولة على أساس العدل والشورى والمساواة، وللمواطنين -وفقاً لهذا النظام والشروط والأوضاع التي يبينها القانون- حق المشاركة في الشؤون العامة).
خميس بن راشد العدوي