ترجمة قاسم مكي
شهدت الأسابيع الأخيرة حرصا من بريطانيا على موضعة نفسها كأحد قادة الردِّ الغربي على عدوان روسيا في أوكرانيا، لكنها في حوالي مثل هذا الوقت العام الماضي كانت منهمكة في الإعلان عن خططها حول انعطافها (توجيه اهتمامها) نحو منطقة المحيط الهندوباسيفيكي لسببين هما: التصدي لصعود الصين، والبحث عن فرص تجارية جديدة.
وسط هذا التركيز الجيوسياسي على أوروبا وآسيا، تخاطر بريطانيا بتجاهل منطقة جيواستراتيجية مفتاحية هي الشرق الأوسط.
لقد تم التخلص بهدوء هذا الشهر من الدور الوزاري (المخصص للمنطقة) والذي كان يتولاه جيمس كليفرلي، وسابقا آليستير بيرت (يقصد الكاتب منصب وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوزارة الخارجية والكومونولث والتنمية البريطانية- المترجم).
وبدلا عن ذلك سيكون كليفرلي مسؤولا عن أوروبا والأمريكتين، وإيران فيما ستتولى آماندا ميلينج باقي المسؤوليات الشرق أوسطية.
يأتي هذا التطور بعد شهر فقط من سحب بريطانيا مبلغ 90 مليون جنيه إسترليني لتمويل عمل خاص بمنع النزاعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا و20% من تمويل جهود حماية الأطفال من الألغام بما في ذلك سوريا ولبنان، كما تم أيضا خفض الأموال المخصصة للّاجئين السوريين وبرامج العون.
من الصعب تصور الكيفية التي سيتوافر بها الوقت لبيلينج وكليفرلي للتركيز على الشرق الأوسط إلى جانب كل مشاغلهما الأخرى.
سيلزَم كليفرلي، وهذا صواب تماما، إيلاء الأولوية للصراع في أوكرانيا ولعواقبه التي يحتمل أن تطول، كما سيتوجب عليه أيضا الإشراف على علاقة بريطانيا الأوسع نطاقا مع أوروبا.
أما بيلينج فسيكون عليها التعامل مع صعود الصين وطموحات بريطانيا التجارية والدفاعية في منطقة المحيط الهندوباسيفيكي، والتي ربما ستشهد في السنوات القليلة القادمة تزايد التوترات حول تايوان.
لقد تغيرت الأشياء بسرعة، فقبل فترة ليست بالبعيدة كان الشرق الأوسط بؤرة نشاط بريطانيا العسكري والدبلوماسي. ويمكن القول أن حكومة كاميرون هي التي بدأت الانعطاف شرقا قبل فترة طويلة من جعله ضرورة بسبب سياسة الخروج من أوروبا (البرَيكْسِت)، وبالنسبة لمسؤولي حكومته لم يكن الاتجاه إلى الشرق يتعلق فقط بالمنطقة الباسيفيكية أو حتى التصدي للصين، ولكن بالاستفادة من فرص التجارة والاستثمار الجديدة من أبوظبي إلى شنغهاي.
لعبت بريطانيا دورا مفتاحيا في الوساطة التي أفضت إلى عقد الاتفاق النووي للحيلولة دون تطوير إيران أسلحة نووية، وظلت نشطة في العراق وسوريا لمواجهة داعش.
وبالطبع إذا عدنا للوراء سنجد أن بريطانيا لعبت دورا تأسيسيا في الشرق الأوسط، فالعديد من بلدان المنطقة كانت إما مستعمرات، وإما محميات بريطانية سابقة. وأعانت بريطانيا على إنشاء دولة إسرائيل في فترة ما بعد الحرب العالمية، وكانت في قلب أزمة السويس.
لقد كان تاريخها في المنطقة مديدا، وفي حالات عديدة دمويا وفي بعض الأوقات تجاريا، وأحيانا يتعلق بصنع السلام.
التخلي عن هذه المنطقة في وقت يشهد تصاعدا في عدم الاستقرار الجيوسياسي سيكون خطأ فاحشا، فرغم احتلال الصين والولايات المتحدة وروسيا عناوين الأخبار الرئيسية إلا أن الشرق الأوسط يظل بالغ الأهمية.
أولا، مفاوضات الاتفاق النووي في إيران سبب كافٍ في حد ذاتها لبريطانيا كي تظل نشطة في المنطقة، والعمل السياسي المتعلق بالاتفاق، خصوصا بعد ذهاب ترامب، حساس جدا، وسيتطلب الوصول إلى محصلة سلمية ومستدامة مهارة غير عادية والتزاما طويل الأجل، كما أن تقليص الاهتمام بالمنطقة وتغيير الوزراء المسؤولين عنها باستمرار ليس الطريقة السليمة لكسب الثقة أو إقناع الشركاء الشرق أوسطيين بأن بريطانيا تتعامل مع همومهم بجدية، لكن الاتفاق النووي الإيراني هو فقط قمة جبل الجليد، فمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستكون بالغة الأهمية للأمن الدولي على عدة جبهات، فهي مهمة على صعيد المناخ حيث سيعقد مؤتمرا الأمم المتحدة للتغير المناخي القادمان في المنطقة، أحدهما في شرم الشيخ هذا العام، والثاني في الإمارات في العام القادم.
والمنطقة مهمة على صعيد اللجوء الذي أثَّر وسيظل مؤثرا على البلدان الأوروبية مع استمرار اقتلاع العائلات من مواطنها بسبب عدم الاستقرار السياسي، وأيضا المنطقة مهمة بالنسبة لقضية الإرهاب الذي لا يزال مصدر تهديد للغرب، ولكنه أيضا حقيقة معاشة للعديدين في الشرق الأوسط.
وعلى نحو مماثل، ينطوي النزاع المستمر في اليمن على مخاطر التصعيد مع الأحداث الأخيرة، ومن الممكن أن تتغير الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة بسرعة، فقبل سنوات قليلة فقط شكل الربيع العربي تحديا سياسيا لحكومات الشرق الأوسط، وفي وقت أقرب أوجدت الاتفاقيات الإبراهيمية تحالفات جديدة.
التعامل مع هذه الديناميات المتغيرة يتطلب مستوى من الانتباه لن يكون ممكنا إذا توزعت مهام الوزراء والموظفين المعنيين بين عدة مناطق.
ثانيا، من المحتمل أن تشهد الأعوام القليلة القادمة عودة الجغرافيا السياسية للنفط، فمع فرض البلدان الغربية عقوباتٍ على روسيا وقطع إمداداتها من الغاز من المرجح أن ترتفع الأسعار إلى عنان السماء.
حينئذ سيتوجب على بلدان أوبك بلس، والتي تشمل روسيا أن تقرر ما إذا كانت ستزيد الإمدادات، ويمكن أن يعني عدم القطع بشأن اتفاق إيران والوضع المضطرب في ليبيا وانتخابات نصف الفترة البرلمانية في الولايات المتحدة والتعافي الاقتصادي من (كوفيد-19) المزيد من التقلب في أسعار النفط.
وبعد عقود قليلة من الهدوء النسبي، غالبا ما ستعود الجغرافيا السياسية للطاقة وقضية الانتقال إلى موارد الطاقة المتجددة بشكل عاصف إلى الساحة.
ثالثا، الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ميدان رئيسي لصراع الديمقراطية (الغرب) والاستبداد (الصين وروسيا).
لقد استثمرت الصين بكثافة في إفريقيا، ليس فقط في مجال التجارة، ولكن أيضا في القواعد العسكرية والقوة الناعمة. من جانبها، تعتبر روسيا أجزاء معينة من الشرق الأوسط داخل مجال نفوذها، ومع تقليص بريطانيا مخصصات التنمية في موازنتها وتأثير ذلك خصوصا على المشروعات في إفريقيا وانسحاب فرنسا من مالي، تتعرض منطقة جيواستراتجية مفتاحية إلى خطر الوقوع في قبضة مصالح منافسين غير غربيين.
وأخيرا وليس آخرا، بريطانيا في حاجة ماسة لشركاء تجارة واستثمار جدد، فقد نصبت حواجز تجارية مع أكبر شركائها وهو الاتحاد الأوروبي، ولأسباب سياسية مختلفة جدا من المستبعد أن تحصل على صفقة تجارية مع الولايات المتحدة والصين، ثاني وثالث أكبر شركائها.
وهذا يعني أن الشراكات مع بلدان الاقتصادات المتوسطة ستكون أكثر أهمية، فقد جعلت وزارة التجارة الدولية في بريطانيا عقد صفقة مع مجلس التعاون الخليجي أولوية لها. ومن المستبعد أن يعين إبعاد وزيرها للشرق الأوسط على هذه المفاوضات.
سيظل الشرق الأوسط في قلب الشؤون الدولية، ولا يمكن إنكار أهميته المستمرة لسلاسل التوريد والجيوبوليتيكا ومعركة الأفكار، ورغم أن اتجاه بريطانيا إلى الاهتمام بتحديات سياسة خارجية جديدة أمر مفهوم إلا أن انسحابا طويل الأمد عن المنطقة سيكون محفوفا بالمخاطر “لبريطانيا العالمية” وللعالم.
ديفيد لورانس زميل أبحاث بالمعهد الملكي للشؤون الدولية ( شاتام هاوس)