يبدو أن إيران أدركت وجود عوائق كبيرة وحسابات معقدة أمام الإدارة الأمريكية الجديدة للعودة إلى الاتفاق النووى الذى انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وللقبول بخريطة الطريق التى طرحتها إيران للعودة الأمريكية إلى هذا الاتفاق، والتى اشترطت العودة الأمريكية للاتفاق وإنهاء العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران كخطوة أولى من جانب الولايات المتحدة كى تراجع إيران بالتبعية وكخطوة ثانية التزاماتها بذلك الاتفاق، لذلك يمكن القول أن إيران تراجعت تكتيكياً بخصوص إلزام واشنطن باتخاذ الخطوة الأولى، وطرحت على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، الذى كان قد اقترح خريطة الطريق تلك فى مقاله المنشور بمجلة “فورين أفيرز” اقتراحاً بديلاً لحل “لغز” أو “عقبة” من يتخذ الخطوة الأولى واشنطن أم طهران يتضمن الأخذ بقاعدة “الخطوات المتزامنة”، وقال ظريف فى تصريحات لشبكة “سى إن إن” الإخبارية الأمريكية أنه “يمكن أن تكون هناك آلية: إما لعودة متزامنة للبلدين للاتفاق النووى، وإما تنسيق ما يمكن القيام به.. واقترح أن يحدد وزير خارجية الاتحاد الأوروبى جوزيب بوريل التدابير التى يجب أن تتخذها الولايات المتحدة وتلك التىة يجب أن تتخذها إيران”.
ظريف لم ينس، وهو يقدم هذا التراجع الذى يمكن اعتباره “حلاً وسطاً” للمأزق التفاوضى مع الولايات المتحدة لعودتها إلى الاتفاق النووى، أن يشدد على أهمية “عامل الزمن” الذى لا يعمل بشكل إيجابى مع أى اتجاه أمريكى للبطء أو للتردد فى سرعة التفاعل مع المقترح الإيرانى.
وللتدليل على ذلك، أى على ضغوط عامل الزمن قدم ظريف سببان يرجحان ضرورة التجاوب السريع مع اقتراحه؛ السبب الأول أن الحكومة الإيرانية ستكون مطالبة بتنفيذ القانون الذى أصدره مجلس الشورى الإيرانى (البرلمان) ويلزم الحكومة بتشديد موقفها النووى فى موعد أقصاه شهرين من تاريخ إصدار هذا القانون وبالتحديد فى يوم 21 فبراير الجارى. ما يعنى أن تأخير إلغاء الأمريكيين لعقوباتهم المفروضة على إيران إلى ما بعد هذا التاريخ سيضيع فرص الحكومة للتفاوض حول الاتفاق النووى. أما السبب الثانى الذى تحدث عنه ظريف فهو اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الإيرانية التى ستجرى فى يونيو من هذا العام، وأنه إذا لم يتم حل المأزق الراهن للعودة الأمريكية للاتفاق وإلغاء العقوبات، لن تكون هناك فرصة لفوز مرشح معتدل فى هذه الانتخابات، وهذا معناه فوز مرشح متشدد قد يكون من صقور “الحرس الثورى” وعندها قد تتراجع، لأجل غير مسمى، الفرص الراهنة للتوافق بين واشنطن وطهران.
هذه المبادرة الجديدة مازالت فرصها محدودة بشقيها الأمريكى المتعلق بمقترح العودة المتزامنة للاتفاق النووى من جانب كل من واشنطن وطهران، والأوروبى المتعلق بالوساطة الأوروبية لتنسيق تفاوض مأمول بين الطرفين الأمريكى والإيرانى. فالإدارة الأمريكية يبدو أنها ليست فى عجلة من أمرها للتسرع بالانخراط فى محادثات مباشرة مع طهران أو غير مباشرة عبر وساطات سواء كانت أوروبية حصراً أو عبر قنوات وساطة أخرى، فالأولوية الآن لإدارة بايدن تتركز حول الداخل الأمريكى بتعقيداته الشديدة بين الديمقراطيين والجمهوريين حول محاكمة ترامب وحول حلول أزمة كورونا، ناهيك عن تشدد الجمهوريين فى الكونجرس وخاصة الصقور منهم الأقرب إلى الرئيس السابق دونالد ترامب الرافضين لأى عودة أمريكية للاتفاق النووى ويمكن القول أن إدارة الرئيس بايدن حسمت اختيارها بالتريث فى التعامل مع إيران على لسان الرئيس نفسه الذى أوضح فى حديث مع محطة “سى.بى.اس” أمس الأول الأحد (7/2/2021) أن الولايات المتحدة “لن ترفع العقوبات التى تفرضها على إيران لحمل طهران على العودة إلى طاولة التفاوض لبحث سبل إحياء الاتفاق النووى”. ورداً على سؤال عما إذا كانت واشنطن سترفع العقوبات أولاً لجعل إيران تعود إلى طاولة التفاوض قال بايدن “لا”. وعما إذا كان يتعين على إيران وقف تخصيب اليورانيوم أولاً أومأ بايدن برأسه.
الشق الأوروبى للقيام بالوساطة محكوم هو الآخر بتعقيدات لا تقل صعوبة عن تعقيدات الشق الأمريكى. فالسؤال المهم بهذا الخصوص هو هل الاتحاد الأوروبى مهيأ للقيام بهذه الوساطة أم لا؟
هناك من يرى أن الأوروبيين “غير مؤهلين” للقيام بهذه الوساطة لسبب واضح وصريح هو أنهم “خسروا مصداقيتهم عندما تراجعوا أمام سياسة ترامب ولم ينجحوا فى فرض أنفسهم لاعبين أساسيين لا من ناحية إقناع ترامب بعدم الخروج من الاتفاق ولا من ناحية مقاومتهم لفرض عقوبات على إيران وعجزهم عن التصدى لهذه العقوبات أمام الشركات الأوروبية التى خشيت من العقوبات الأمريكية”.
رغم هذا التشاؤم الذى يتطابق مع تقييم إيرانى مسبق للدور الإيرانى، فإن مبادرة وزير الخارجية محمد جواد ظريف تجاوزت هذا القصور، وتجاوبت مع الضرورات التى تفرض على طهران العودة للوسيط الأوروبى، ولعل فى تجاوب جوزيب بوريل وزير خارجية الاتحاد الأوروبى مع مبادرة ظريف يحمل بعض التفاؤل، حيث أعلن بيتر ستانو المتحدث باسم بوريل الثلاثاء الماضى (2/2/2021) أن الاتحاد الأوروبى يبذل جهداً كبيراً مع الإدارة الأمريكية الجديدة لرفع العقوبات الأحادية التى فرضتها واشنطن على إيران، وحث طهران على احترام تعهداتها فى الاتفاق.
ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن بيتر ستانو أن “بوريل يلعب دور المنسق ويبذل جهداً كبيراً لإعادة خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووى) إلى السكة”، وزاد على ذلك القول بأن “من أهداف اتصالاتنا مع الإدارة الأمريكية التحقق ما إذا كان من الممكن رفع العقوبات الأحادية المفروضة من الإدارة السابقة” مشيراً إلى نقطة مهمة وهى أن “إيران لا تستفيد حالياً من أى نوع من المنافع الواردة فى الاتفاق، ويمكن إيجاد حل مع عودة الأمريكيين إلى الاتفاق”.
هذه التوضيحات يفهم منها أن هناك تفهماً لدى رئاسة الاتحاد الأوروبى لوجهة النظر الإيرانية، لكن هذا الفهم نفسه يعتبر العقبة الأهم أمام وساطة الاتحاد الأوروبى لأنه لا يتفق مع الرؤية الأمريكية وحساباتها المعقدة، كما أنه لا يعكس توافقاً حوله من جانب دول الترويكا الأوروبية الثلاث: فرنسا وبريطانيا وألمانيا الموقعة على الاتفاق النووى، والتى أظهرت فى الأشهر الأخيرة مواقف مغايرة لمواقفها السابقة وبدت أقرب إلى القبول بشروط الإدارة الأمريكية السابقة من ناحية الدعوة إلى اتفاق جديد بديل مع طهران يشدد القيود على قدرات إيران النووية مستقبلاً ويجد حلولاً لقدراتها الصاروخية الباليستية، ولسياستها الإقليمية.
كما أنها تعارض بشدة التراجعات الإيرانية عن الاتفاق وتطالب إيران بالعدول عنها، وفى ذات الوقت باتت من الداعية على توسيع الاتفاق ليضم دول إقليمية على نحو ما تحدث الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بخصوص ضرورة إشراك السعودية فى أى مفاوضات نووية جديدة مع إيران. الأمر الذى رفضته إيران بشدة، سواء من ناحية رفض الاتفاق البديل أو من ناحية ضم أطراف جديدة .
كل هذه التعقيدات تعنى أن المبادرة الإيرانية الجديدة تواجه تعقيدات صعبة فهل هناك من بديل لتحريك الأزمة لدى واشنطن أو طهران ، أم ستكون طهران هى الطرف الذى عليه أن يبادر بتقديم التنازلات؟، هذا هو التحدى ليس فقط أمام إيران بل أمام الولايات المتحدة أيضاً فى ظل ما صدر عن المرشد الإيرانى الأحد الفائت من تصريح أقرب إلى الفتوى بأن “قرار إيران النهائى الذى لا رجوع فيه هو أنها لن تعود إلى الامتثال للاتفاق النووى إلا إذا رفعت واشنطن العقوبات عنها” .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام
9 / 2 / 2021م