في واقعنا الاجتماعي أسر تعيش حياة الكفاف، وأخرى لا تجد إلا قوت يومها، وثالثة تتبادل لقمة العيش، ورابعة ضاقت بها الأوضاع الاقتصادية ذرعا؛ بفعل تسريح أبنائها من أعمالهم، حتى تكالبت عليها الديون، وقد سعى أغلب هؤلاء واجتهد ليحصل على قوت يومه ببيع الخضار والفواكه أو بعض وجبات الإفطار والأكلات الشعبية في الشوارع، حاملين معهم الصبر وأحلام الحياة حتى وإن كانت بعيدة المنال، قد تكون الصورة في زمن مضى أقرب إلى الخيال قليلا وإن كانت حاضرة فليست بذلك الوقع والأثر، غير أنها اليوم أفصحت عن هاجس يعيشه الكثير من الأسر العمانية في ظل تعقد الظروف الاقتصادية وارتفاع حجم الإنفاق اليومي للأسرة في المستلزمات الحياتية التي لا غنى عنها. ولعل نظرة بسيطة لواقع غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار خير دليل يعكس هذا الواقع الصعب ويصف أثره، فمثلا: صندوق زيت الطعام الذي كان قبل أقل من عام بـ7 ريالات كان يحوي بداخله 17 لترا، وصل سعره اليوم إلى 11 ريالا قابلا للارتفاع لـ15 لترا فقط، لذلك لا غرابة أن يتحدث أصحاب المبادرات الخيرية، والقائمون على العمل الخيري التطوعي في كل المحافظات عن ارتفاع في أعداد الأسر المعسرة في الولايات التي تم تسجيلها في الفترة القليلة الماضية في إطار جهود هذه الفرق التطوعية الخيرية في حصر المستحقين للمعونة مع قدوم شهر رمضان المبارك.لقد أسهمت الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة في سبيل مواجهة العجز المالي وتعزيز الاستدامة الاقتصادية، أو ما فرضته جائحة كورونا (كوفيد19) من إجراءات اقتصادية، وعبر فرض ضريبة القيمة المضافة، ورفع الدعم عن الكهرباء والماء والوقود، وارتفاع رسوم الخدمات الحكومية، وارتفاع فاتورة استهلاك الوقود، وزيادة الأسعار في المواد الاستهلاكية، مع بقاء هاجس التعقيدات في الإجراءات ومحدودية الاستفادة من التسهيلات والحوافز، واستمرار البنوك في سياستها الربحية الانتهازية، وحالات الإفلاس أو تراكم الديون على أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، الأمر الذي تسبب في الدفع بهم إلى المحاكم، وصدرت على الكثير منهم أحكام بالحبس أو السجن أو دفع الغرامات ممن لم يمكنهم سداد الديون والالتزامات البنكية وأقساط شركات التأمين والإيجارات، وفي المقابل ظل هاجس ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمسرحين من القطاع الخاص يُخيّم بظلاله على أغلب الأسر العمانية؛ بما ترتب عليه من تراكمات نفسية وفكرية وصحية وأمنية انعكست على حياة المجتمع، في ظل وجود الأسر ذات الدخل المحدود والأسر المنتظرة لقائمة الدور لإدخالها ضمن منظومة الضمان الاجتماعي والمساعدات السكنية لتأتي الأسر المعسرة لتضيف إلى الملفات السابقة أحداثا جديدة ومعطيات تنذر بتحديات قادمة في المشهد الاجتماعي العماني إن لم يتم تدارك الأمر واحتواؤه.وعليه، فإن التعاطي الجاد مع الارتفاع المتوقع في الأسر المعسرة؛ نظرا للأسباب التي أشرنا إلى بعضها، يجب أن يرتكز على تكامل دور الحكومة والمجتمع، فمن جهة على الحكومة ومؤسسات الدولة المعنية أن تتبنى سياسات واضحة وإجراءات ثابتة فيما يتعلق بعمليات الدعم والمساندة والرعاية الاجتماعية للأسرة المعسرة وغيرها من فئات ذوي الدخل المحدود والضمان الاجتماعي والحالات الطارئة، بحيث يعاد توجيه الجهود المؤسسية في هذا الجانب وتصحيحها وضبطها وإدماجها ضمن حوكمة منظومة الحماية الاجتماعية بما يجنبها التكرارية والازدواجية والتبعثر، ويضمن وضوح مسار العمل الاجتماعي بين وزارة التنمية الاجتماعية ووزارة الإسكان والتخطيط العمراني ووزارة الداخلية والمحافظات وغيرها، وأن تدار منظومة الحوافز والممكنات والفرص بطريقة احترافية يلامس وجودها حياة الأسرة، هذا الأمر يستدعي طرح بدائل تحفيزية لهذه الفئات عبر مراجعة الضرائب والرسوم وآلياتها، وتوفير حزمة من الامتيازات والحوافز المادية والتسهيلات البنكية والخدمية أو التجارية أو غيرها، بالإضافة إلى توفير الممكنات النفسية والفكرية والبرامج التدريبية والتأهيلية لمساعدة الأسر المعسرة في التعامل مع التحديات المادية التي تواجهها وتكييفها مع حجم هذه الالتزامات، بما يستدعيه واقع الأمر من مراجعات وتصحيحات، وإعادة تقييم المستجدات الاجتماعية الناتجة عن الإجراءات الاقتصادية المتخذة، وتشخيص الحالات الفردية والجماعية، على أن تحقيق ذلك يتطلب إعادة تعريف المفاهيم والمصطلحات الاجتماعية المرتبطة بهذا الوضع، والأبعاد التشريعية والقانونية والاجتماعية والتنفيذية لها، وتصنيف الفئات في ظل جملة من الاعتبارات من بينها: دخل الأسرة والمسكن والاستهلاك اليومي وعدد الأفراد ومقتنيات الأسرة، والوضع الاجتماعي في البيئة المكانية التي تعيشها وغيرها من المتغيرات التي تعطي صورة متكاملة عن حالة الأسرة ومستوى الضرر الواقع عليها. فإن من شأن تقنين هذه المفاهيم ووضع وصف دقيق لهذه الفئات أن يقلل من مسألة التداخل والازدواجية وسوء الفهم الحاصل في تقييم احتياجات وأولويات هذه الفئات، ويضمن التعاطي معها بحسب مقتضياتها، ويسهم في إيجاد مزيد من التناغم في الجهود الوطنية لحلحلة هذه الفجوة التي بلا شك أسهمت في زيادة مساحة الاجتهادات الشخصية والتقديرات الذاتية وفرض سلطة الرأي وإقصاء الجهود الوطنية أو فتح ملفات جديدة قد تمت معالجتها أو التعامل معها.كما تقع على مؤسسات الجهاز الإداري للدولة مسؤولية تبسيط الإجراءات واختصار سلسلة الآليات المرهقة التي أسهمت في قطع أرزاق الكثير من الأسر المعسرة التي تحاول جاهدة أن تمارس بعض المشروعات الاقتصادية المشروعة بحجة عدم وجود ترخيص، أو اكتمال توفير المتطلبات التي تكلف الأسرة الموارد المالية الطائلة والتي هي بأمسِّ الحاجة إليها في مشروعها الاقتصادي، وتبني منصة استثمارية وخدمية إلكترونية تختص بالفئات المعسرة والفئات محدودة الدخل وفئات الضمان الاجتماعي وغيرها من فئات الدعم لتسهيل حركة إنجاز تراخيصها، والتقليل من هدر المال والوقت والجهد بعد وضوح المسار المفاهيمي والتشريعي وتقنينه، وبالتالي أهمية إعادة النظر في التشريعات القائمة وتطوير القوانين بالشكل الذي يضمن انسيابيتها ومرونتها في الدفع بالمواطن إلى العمل الاجتماعي الخيري، وتشجيع المواطنين على إقامة الجمعيات التعاونية، بالإضافة إلى مراجعة غايات منظومة الوقف، والاستفادة من الوقف الخيري الحكومي المؤسسي وترقيته، وغرس مبادئ الوقف المرن وثقافته في المجتمع ليتجاوز وقف رجال الأعمال والأيادي البيضاء وأصحاب الخير مسألة بناء المساجد إلى المساهمة في دعم الأسر المعسرة، وتوجيه هذا الدعم للتثمير في مشاريع الدعم المجتمعية، ويبقى الاعتراف بأن ما يعيشه الواقع الاجتماعي في ظل موجة الارتفاع في الأسعار والسلع الاستهلاكية تؤكد أهمية الاعتراف بمؤشر الفقر والعوز وإدراجه ضمن منظومة الحماية الاجتماعية باعتباره علامة فارقة وخطا أحمر يهدف وجوده إلى تقييم الإجراءات الوطنية وكفاءتها وتصحيح الأوضاع الاجتماعية للأسر المعسرة، ومحدودة الدخل، وأسر الضمان الاجتماعي والفئات الداخلة ومدى اقتراب هذه الإجراءات وابتعادها عنه.ومع ما أشرنا إليه من مسؤولية الحكومة في التعاطي مع هذه الملف، يأتي دور المجتمع وفي ظل مسار اللامركزية بتفعيل دور المحافظات في ظل الصلاحيات الإدارية والمالية الممنوحة لها بالمرسوم رقم (101/2020) بشأن نظام المحافظات والشؤون البلدية بالتفكير في بدائل نوعية وابتكار بدائل أكثر استدامة وواقعية وإجرائية في التعامل مع تداعيات الحالة الاقتصادية؛ كونها أخبر بظروف المواطنين وأقدر على تتبع حالاتهم وفهم واقعهم وتلمس احتياجاتهم والوقوف على ظروفهم، لذلك تتجه الأنظار اليوم إلى دور أعمق للمحافظات في تعزيز العمل الاجتماعي وعبر التشخيص المستمر لهذه الحالات، وإيجاد قواعد بيانات متكاملة بكل محافظة تتضمن هذه الفئات وظروفها ودخولها الشهرية وممتلكاتها الثابتة والمنقولة والمصروفات الشهرية والالتزامات البنكية وغيرها، وتبنِّي أساليب مقننة تراعي خصوصية المحافظة في تقييم الحالات الاجتماعية واستيعابها وتشخيصها، وتقديم الحلول والبدائل في التعاطي مع ما فرضه الواقع الاقتصادي من ظروف صعبة على بعض الأسر في عدم قدرتها على التكيف مع غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار؛ كونها باتت تمثل مصدر قلق اجتماعي يجب التعامل معها بمهنية.كما يبقى تعزيز ثقافة الجمعيات التعاونية، وتفعيل الجمعيات الخيرية الداخلية، والتوسع فيها بشكل أكبر على مستوى المحافظات وبناء أطرها وتحديد آلياتها أحد الحلول المجتمعية التي تتيح للأسر والأفراد التفكير في موارد رزق أوسع، وتعطي فرص أوسع لأبناء المحافظات في إنشاء شركات أهلية في مختلف المشاريع الحيوية الواعدة لتضم فيها قائمة من رجال الأعمال وأصحاب الشركات والمستثمرين في موارد المحافظة وذوي العلاقة من مختلف ولايات المحافظة، بحيث يقوم دور الجمعيات التعاونية المتكاملة في كونها جمعيات خيرية موجهة لفئات معيَّنة من المجتمع كالباحثين عن عمل والمسرحين أو المعوزين وذوي الدخل المحدود، هدفها احتواء هذه الأسر والفئات إما من خلال خفض سعر السلع والمواد الغذائية وعبر بطاقة خصم خاصة، أو تشغيل أبنائها في هذه الجمعيات، أو فتح المجال لها لعرض منتجاتها وبيعها فيها، ليتسع دورها إلى الإسهام في بناء المجتمع اقتصاديا.أخيرا، كثيرة هي المبادرات والأفكار والنماذج التي ابتكرها أبناء عُمان في مساعدة أهلهم وجيرانهم وبني جلدتهم، ويبقى الجهد الحكومي بما يحمله من فرص للنجاح، خيارا استراتيجيا يصنع لأبناء المجتمع والفرق الخيرية واللجان مددا لعطاء أفضل، وعمل أدوم، وإنجاز يفوق التوقعات. ولمَّا كان واقع الأمر ينبئ اليوم عن وجود الكثير من هذه الأسر التي باتت تعيش تحت خط الفقر، كان من الأهمية الوقوف على حيثيات الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، وإعادة توجيه مسار الإجراءات الاقتصادية بطريقة تضمن حماية كيان المجتمع والمحافظة على نسيجه الاجتماعي، وضمان الإبقاء على روح الانتماء والولاء والحس الأمني، وتقوية فرص التكافل الاجتماعي، وتنشيط نظام الحماية الاجتماعية لصالح جودة حياة المواطن وعيشه الكريم، وأن تضمن المراجعات والتقييمات الدورية التي تنتهجها الحكومة لما اتخذته من إجراءات اقتصادية سابقة، محطة لالتقاط الأنفاس، وقرارات جادة تحمي المواطن من شبح الفقر المظلم.
د. رجب بن علي العويسي