تمثل القافية في صلب قصيدتنا العربية الملمح الأكبر الذي يمنحها خصوصيتها وشخصيتها، حتى عدت القصيدة هي القافية، والقافية هي القصيدة. ومن ذلك قول قائلهم متحدثا عن اخر: “اذا ما قال قافية هجاني” وقصده: اذا قال قصيدة. والابيات التي يرد فيها ذكر القافية باعتبارها القصيدة كثيرة في الشعر العربي ذلك ان القافية هي الصوت المجلجل الذي يحرك أوتار القلوب وتتحلى به المسامع.
وانتماء القصيدة الى قافيتها كانتماء الانسان إلى اسرته مرتبطة به ومرتبط بها إلى ما لا نهاية. نقول ميمية زهير ولامية امرئ القيس ونونية ابن كلثوم ويائية المتنبي ودالية المعري وبائية أبي تمام وسينية البحتري وهمزية البوصيري وقافية شوقي وهكذا. كما نقول ميمية عنترة فنعلم انها غير ميمية لبيد وغير ميمية الحطيئة وغير ميمية المتنبي، ونقول نونية جرير او نونية البستي او نونية شوقي او نونية ابي مسلم، فيدرك السامع من فوره أي نونية نريد وينزل على ثغره فورا بيت المطلع منها ، وتتبادر اليه صور ومشاهد ابياتها أولا بأول.
وفي عُمان عندما تقول “نونية” يعرف الكل انك تشير إلى نونية ابي مسلم (نونية ابن عديّم) كما يجري لفظها على اللسان الشعبي. وهي نونية يعرفها الجميع، الخاص والعام، والمتعلم والامي. وتنشد في الاماسي وجلسات السمر، فيطرب لها الحضور وينفعلون بها وتتقد عواطفهم لسماعها فهي ملحمة اهل عمان في عصرها تمجد عمانهم وتبرز عظمتها في سجل الدهر. محرضة إياهم على اقتفاء اسلافهم وإعادة امجادهم وتوحيد صفوتهم و”استدراك فائتهم” تسكب في اعماقهم الاثارة والنخوة، وتحرك عواطفهم وتهز انفعالاتهم المسترخية، وتستفز مكامن النفوس ودواخل الاحاسيس، فتلتهب المشاعر فوارة متدفقة.
قصيدة هي قصيدة الوطن كله. لا يوجد بيت في عمان الا وبداخله نسخة او اكثر منها – ذلك على الأقل ما اذكره ابان نشأتي الأولى – يقرئها الاب لأبنائه كما يقرئهم سور القرآن. وتدفع الأمهات بابنائهن لحفظها واستظهار ابياتها باعتبار ذلك من الواجبات التي لا ينبغي الاخلال بها والتفريط فيها.
“النونية” تذكر فتضطرب النفوس، وتنشد فيتبادر الناس إلى الاصغاء، ويرتفع الصوت الجميل منغما الابيات فتتسارع دقات القلوب وترهف الاذان، ويسود الصمت والهدوء:
حتام يا دهر لا تبقي على بشر
حر وحتام ضيم الحر احسان
اكل رايك حربي؟ ام لها امد
فان عهدي وللحالات الوان
حل العقال واطلقني الى سعتي
ففي سجونك للميدان فرسان
يا دهر يا باخس الاحرار حقهم
اعط العدالة ان الله ديان
فيم التقصي باهل الفضل ان نقصت
حسناك زادوا وان شان الورى زانوا
* * *
نونية ابي مسلم تذكر فتنتبه الحواس العمانية في كل اتجاه، وتصيخ الاذان سمعها لالتقاط صوت المنشد يعلو وينخفض مطربا في انشاده لكانه برتل نشيدا من الأناشيد المقدسة في لحظة إخلاص وايمان. “النونية” كلمة تخرج من شفة ما فيخفق قلب السامع وتنهمر شلالات من العواطف الساكنة في برزخ الأعماق يصعب توصيفها او تحديد نوعيتها، سوى انها المشاعر الصادقة التي لا لون لها ولا صفة تحس وتستشعر ولا تلمس ولا ترى. “النونية“، وما ادراك ما “النونية“، حين تشدو بها أصوات المنشدين العذبة في ليالي السمر تحت أضواء النجوم مصحوبة بهسهسات سعف النخيل حركتها نسمات “الكوس” في قرية تتدثر برداء ليلها على حضن جبل يبث فيها الطمأنينة والأمان. “نونية” ابي مسلم وتنجذب النفوس انقيادا ورغبة. “نونية” ابي مسلم ويجري الزمن كله سائلا رقراقا مثل الوادي جاء بعد هطلة مطر غزيرة. “نونية” ابي مسلم ويتحرك المكان بجباله ورماله ووديانه وبنيانه واطلاله وبقايا مئاثره منفتحا على كل ما في الكون من قريب او بعيد. أشبه بالمفتاح السري لكل المغاليق السحرية.
“نونية” ابي مسلم تلك التي يمم شطرها الشعراء مفتونين بفنها وعبقريتها الشعرية، يرومون محاكاتها وبيتغون النسج على منوالها فما قدروا وما استطاعوا واعجزهم منها بيانها الرفيع وبنيانها العالي ان يدنون منها او يقتربوا من سفوحها، فضلا عن الصعود لذرى عليائها. “نونية” ابي مسلم، تلك الدفقة القوية الهائلة التي جاءت كما زفرتها الموهبة من غير صناعة او تزويق او تلوين.
قصيدة هي ملحمة ناظرت نونية عمرو ابن كلثوم عند بني تغلب لولا ان تلك لقبيلة واحدة وهذه لوطن بأكمله. نقول “النونية” فيدرك العماني أيا كان مستواه الثقافي أي نونية نعني.. و”النونية” لم تسحر العمانيين وحدهم فقط بل كل من اطلع عليها اسرته شاعريتها وقوة بلاغتها.
فالشيخ مبارك العقيلي العالم والاديب الاحسائي المقيم في دبي بساحل عمان آنذاك بهرته فطفق يرددها ويشيد بها ويشدو ويوزع نسخها على كل من يعرف من ادباء وعلماء نجد واليمن والحجاز ومدن الخليج. وقد عاش هذا الشيخ برهة من الزمن في مسقط موظفا عند السلطان تيمور وله فيه قصائد مدح متعددة. والشيخ عبدالعزيز الرشيد، اديب الكويت ومؤرخها، لم يقدر حين رآها منع نفسه من الافتتان بها والخضوع لسلطانها والوقوع في غرامها وهواها فسارع بنشرها في مجلته “الكويت” على عدة حلقات، مما جعل اثرها يتسع ويتضاعف لدى قراء تلك المجلة والمتابعين لها في ذلك الوقت.
والشاعر النجدي ابن عثيمين لم يستطع كذلك الإفلات من سطوتها والنجاة من تاثيرها العارم فجاءت قصيدته في مدح ابن سعود محاكاة لها حد التطابق ليس في الوزن والقافية والمعاني والسياق فحسب بل حتى في الالفاظ والكلمات والجمل والصور في بعض ابياتها حيث لم يتغير سوى المقصد في المدح من الامام سالم بن راشد الخروصي الى الملك عبد العزيز.
أي قصيدة هذه التي يمتد نفوذها كل هذا الامتداد؟ وتنتشر سحائبها كل هذا الانتشار؟ أي جملة شعرية تلك التي احتوتها؟ وأي معان عميقة تلك التي اشتملت عليها. وأي بيان تردد في جنباتها وانبثق من حناياها ليسكن أعماق النفوس ويصبح مهوى الافئدة. انها “النونية” نونية ابي مسلم تلك التي اذهلت الباب من سبقونا، وحركت احاسيسهم، وحملتهم نحو السماوات البعيدة صعودا إلى الأعالي وهي تفعل فينا كما فعلت في السابقين من ابائنا واجدادنا تذوقا والتذاذا واحساسا بالمتعة والنشوة والاريحية. وبالسمو والانطلاق والانعتاق في الروح الشفافة الخالصة. انها ما تزال تؤدي رسالتها وتفيض بأنوارها وتمد التماعات ضوئها ووهجها. وتلك ميزة الشعر القوي الصادق الذي لا يغير فيه الزمان ولا يحيط به المكان. وانما يظل خالدا تستمر اشعاعاته على الدوام. فـ”النونية” ما يزال التهاب انوارها مهيمن. وما تزال اطيارها ترفرف من فوق سعفات النخيل العالية وعلى ضفاف الاودية السائرة متحدرة في مياه الافلاج وحقول الزرع خصبا وماء بين قرى الريف البسيطة الهادئة او تحت ظلال جدران المدن العتيقة أو عبر البوادي النائية في سهولها المترامية.
هذه القصيدة الملحمة ما برح رنينها يسمع وصداها يصخب في أعالي الذرى من جبالنا الشامخة حتى بواطن الاودية وقيعانها يعم القريات المتناثرة في السفوح والقمم.. الكل يصغي لصوت “النونية” ان جاء والكل ينفعل بكلماتها ان سمعت. تنساب ابياتها فيتجدد الشجن وتتنامى العواطف وتهب القلوب من رقدتها ويبرز العزم والجد وتتنزل السكينة على المكان والانسان.
أي شعر ذاك؟ أي كلمات تلك؟ اية قصيدة هذه التي تبحر بالناس عبر كل الأزمنة والعصور والاجيال؟
لم يكن التسجيل قد اخترع بعد حين ظهرت “النونية” في عمان يسوقها الشوق من زنجبار حيث قضى الشاعر جل حياته. بل كانت الحناجر فقط بصوتها الطبيعي هي التي تبثها للسامعين وقتها. وللعمانيين طريقتهم المعلومة والمميزة في انشاد الشعر. واحسبها من بقايا طرائق العرب الاقدمين حين يتغنون بشعرهم وتصدح السنتهم بأوزانه وقوافيه مرددا في نغم يطرب الأذن. اما اليوم فإن الآءلات الحديثة هي التي أصبحت واضحت وغدت وأمست تهتف بأبيات “النونية“. صدى “النونية” يرافقك في السارة ويطربك في البيت رافعا عقيرته بأصوات المنشدين العذبة يترنمون بأبياتها كأحسن ما يكون الترنم.
هكذا هي “النونية” تواصل انتشارها وتمددها. لا يكاد بيت في عمان يخلو منها. مخطوطة بخط النسخ الجميل او مطبوعة بحروف المطبعة البارونية المشابهة في شكلها لخط المصاحف القرءانية رونقا وجمالا.
ذاك فيما مضى اما في حاضرنا فهي في ءآلة التسجيل ترافق العمانيين أينما وجدوا في حل ومرتحل تصرخ بهم وتناديهم:
يا للقبائل يا أهل الحفاظ ومن
امجادهم في جبين الدهر عنوان
الأديب الأستاذ أحمد بن عبدالله الفلاحي