للقرآن الكريم روعة تهتز لها النفوس والقلوب والألباب، وله وقع عجيب تخشع له القلوب، وهذا ليس بغريب على كتاب أنزله رب السموات والأرض، ومما يحفظه القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي لنا من أثر هذا الوقع هو ما استشعر به مشركو مكة وهم أهل البلاغة والبيان والإفصاح حينما استمعوا إلى آيات القرآن الكريم، وحينئذ عرفوا عظمته وإعجازه اللغوي والبياني، لكن الكبر والغرور هو الذي منعهم من الإيمان به وبما جاء فيه.
وكل منصف للحقيقة يقر أن الأسلوب الذي جاء عليه القرآن الكريم، والنسق الذي صيغت عليه آياته، أمر في غاية الروعة والبيان، ولا عجب في ذلك، فهو كلام رب العالمين، وهو أحسن الحديث، قال تبارك وتعالى: (ومن أصدق من الله حديثا)، ويقول سيد قطب (الكاتب والأديب المصري، 1906 – 1966)، في كتابه “التصوير الفني في القرآن الكريم”: “إن القرآن الكريم سحر العرب منذ اللحظة الأولى، سواء من شرح الله صدره للإسلام، ومن جعل على بصره منهم غشاوة، وقصة إيمان عمر بن الخطاب وقصة تولي الوليد بن المغيرة نموذجان من قصص كثيرة متعددة للإيمان والتولي وكلتاهما تكشفان عن هذا السحر القرآني الذي أخذ العرب منذ تلك اللحظة الأولى”، والحديث عن فضل القرآن الكريم على لغة العرب لا يحتاج إلى دليل، فقد علم ولا يزال يعلم أهل الأرض كافة أن اللغة العربية تبوأت مكانتها تلك بسبب كونها وعاءً لكلام الله تبارك تعالى، ولأجل ذلك قامت العلوم المختلفة لخدمتها ثم صارت اللغة العربية لغة العلم والحضارة ، بجانب كونها لغة العبادة والتعبد، ولعل من أسباب هذا السحر البياني الذي تمتعت به آيات القرآن الكريم التناسق والتكامل في اللفظ والمعنى.
من هذه المقدمة التي تشرح ما كنا قد أشرنا إليه في الأجزاء السابقة حول أهمية التدبر والتفكر في فهم القرآن الكريم وفهم الإعجاز فيه البياني واللغوي وجماله ومعانيه ودقتها، وكنا قد شرحنا جمال وروعة النظم القرآني من خلال دقته في استعمال بعض الكلمات القرآنية والتعبير بها خاصة دون غيرها وأنه لا يصلح التعبير بغيرها، واليوم نستكمل هذه السلسلة الغنّاء، لنشر العلم والفائدة للجميع.
ولكي يتجلى لنا هذا البيان الرائع في فصاحة القرآن وبلاغته، لدينا، إيجاز اللفظ مع سعة المعنى، فحين نتمعن في آيات الذكر الحكيم وتدبرها جيداً أن القرآن الكريم يعبر بألفاظ وجيزة وقليلة عن معانٍ واسعة قد تحتاج في توضيحها وبيان ما يتعلق بها من أحكام إلى عدة مؤلفات وبسط واستطراد في بيان ما تحمله بين طياتها من فوائد جمة وهو ما يعبر عنه أيضاً بقولهم، القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى، وهما طرفان متقابلان، الميل لأحدهما ميل عن الآخر، فمن أوجز في لفظه لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلاً أو كثيراً، ومن يعمد إلى الوفاء بالمعنى و إبراز كل دقائقه لا يجد في قليل اللفظ ما يشفي صدره، فيسترسل استرسالاً يشعرك بتضاؤل قوة نشاطك، واضمحلال باعثة إقبالك فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع، فانظر حيث شئت من القرآن الكريم تجد وفاء الالفاظ بحصن المعاني، واحتواء المعاني للألفاظ بحيث لا يستفني معني عن لفظه ولا تقصير لفظه عن معنى كما قال ابن عطية ( الإمام المفسر ابن عطية الأندلسي 1088 – 1146 م): “لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد”.
وقد ذكر أهل البلاغة و الفصاحة أن من أبلغ ما قالته العرب: (القتل أنفى للقتل) وهذه الكلمة على بلاغتها عندهم قد فاقتها في البلاغة والفصاحة وتجاوزها بكثير جزء من الآية الكريمة: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)، وقد أبرز علماء البلاغة أن قول (في القصاص حياة)، أبلغ وأفصح من تلك الكلمة التي قالتها العرب بقرابة عشرين وجهاً أو أكثر منها: أن عدد الحروف في جملة (في القصاص حياة) التي في الآية الكريمة أقل من عددها في كلمة العرب (القتل أنفى للقتل) فحروف الآية اثنا عشر حرفاً، وتلك أربعة عشر حرفاً، أيضاً، أن الآية معناها واضح بيّن جلي وهو معنى مطرد مستمر فإقامة القصاص سبب في حفظ الحياة، بينما (القتل أنفى للقتل) ليست مطردة لأنه ليس كل قتل أنفى للقتل بل قد يكون القتل ظلماً وعدواناً، كذلك نجد أن الآية الكريمة خالية من التكرار، بينما كلمة العرب فيها تكرار لفظ القتل، والخالي من التكرار أبلغ من المشتمل على التكرار، إلى جانب أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة فهو مبني على العدل بخلاف القتل، بالتالي، إن التعبير بقوله ولكم في القصاص حياة، مع قلة ألفاظ هذه العبارة، إلا أنها أرشدت إلى معان واسعة جمة لا يمكن أن تفي بها عبارات أخرى.
ومن وجوه الاعجاز البلاغي في القرآن الكريم، لدينا الدقة اللفظية في استعمال الكلمات القرآنية، ومما لاشك فيه أن كل كلمة في القرآن الكريم تؤدي معنى دقيقاً محدداً ويكون هذا المعنى هو الأبلغ والأفصح وهو المقصود من الآية ومما يزيد الإعجاز وضوحاً أن استخدام أي كلمة أخرى من مراد صفات الكلمة القرآنية لا يمكن أن تؤدي المعنى المراد ببلاغته ووضوحه فمن وجوه الإعجاز البلاغي دقة أداء الألفاظ للمعاني أو بمعنى آخر، اختيار المكان المناسب للكلمة المعبرة، كما في قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)، إن اختيار كلمة الحرث هنا والتعبير بها دون سواها من الكلمات إعجاز لأن في هذه الكلمة كناية جميلة، ذلك أن التشابه قائم بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه، وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث، وذلك النبت الذي تخرجه الزوجة وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح، فهذه المعاني كلها تؤخذ من كلمة الحرث، لكننا لو استخدمنا كلمة الأرض أو الحقل أو غير ذلك لم تؤد ذلك المعنى الذي أدته كلمة الحرث، لأن الأرض قد تكون جدباء فلا تصلح للحرث، والحقل لا يدل على الملك لأنه قد يكون لغيره، أما الحرث فإنها تؤدي ذلك المعنى البليغ في أبهى صوره.
ومن وجوه الإعجاز القرآني أيضاً، التناسب البليغ بين مضامين الآيات و الأسماء الحسنى في خواتيمها، الآيات التي ختمت بأسماء الله الحسنى كثيرة جداً، ومن الملاحظ كثرة التنوع في تلك الأسماء الحسنى ومن وجوه الإعجاز البياني أن كل اسم من الأسماء الحسنى ختمت به آية من الآيات يكون هو الأنسب، وتكون الصلة بينه وبين مضمون الآية ومعناها وطيداً، ويأتي مكملاً للمعنى بأبلغ صورة وأجمل لفظ، ولو وضعنا اسماً آخر من الأسماء – وكلها حسنى وتدل على الحق جل وعلا – لم يكن ذلك محققاً للدلالة الدقيقة والبلاغة الرفيعة نفسها، كما في قوله تبارك وتعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم).
فالآية الأولى لما كانت تتحدث عن حد من حدود الله لكبيرة من الكبائر وهي السرقة ولما كانت العقوبة شديدة وصارمة وهي قطع اليد لأجل ذلك ناسب أن يكون ختامها (والله عزيز حكيم) فالعزيز هو الغالب الذي لا يقهر، والحكيم هو الذي يضع الأمور في نصابها وهذا مناسب لدلالة الآية، فحكم القطع وضعه من لا يقهر ولا يغلب فأمره نافذ وحكمة قاطع وأن توهم متوهم أن في الحكم مفسدة أو قسوة زائدة، جاء اسم الحكيم ليرد ذلك ويبين أن في القطع حكمة بالغة ومصلحة غالبة ومنعا لتكرار أو شيوع السرقة في المجتمع ومن ثم تحقق حفظ المال، وهذا من المقاصد الشرعية الكلية الخمسة.
بينما نرى الآية الثانية وهي تتحدث عمن تاب وأناب ورجع عن ظلمه وأصلح بعد الإفساد فناسب أن تختم بقوله: (إن الله غفور رحيم) ومناسبة ذلك لمعنى الآية واضح لا يحتاج إلى تعليق، وهكذا لو تتبعنا أسماء الله الحسنى في خواتيم الآيات لوجدناها جاءت على أتم وأكمل الوجوه في تطابق ومناسبة معناها مع دلالة الآيات ومضامينها، ويشهد لهذا المثال السابق ما حكي أن الأصمعي (عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي 121 هـ – 216 هـ، راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان): قرأ قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم) فبدل أن يقول: (والله عزيز حكيم) قال: (والله غفور رحيم) سهواً، وكان إلى جنبه أعرابي فسمعه فأنكر قراءته وقال له: ليس هذا كلام الله، فتنبه الأصمعي فقال: (والله عزيز حكيم) فقال الأعرابي: أصبت، هذا كلام الله فقال له الأصمعي: أتقرأ القرآن؟ قال: لا، فقال له فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال يا هذا: عز فحكم، فقطع، ولو غفر ورحم ما قطع.
أخيراً وليس آخراً، الكتابة في قواعد التدبر وضوابطه من الأهمية بمكان وقد كتب فيها عدد من الباحثين فأجادوا وأفادوا، ونحن نحاول قدر الإمكان تبسيط المعلومة ضمن إطارها والحفاظ على سياقها كما شرحها كبار العلماء، لتحقيق التدبر في غايته العظيمة وهي زيادة الإيمان وحصول العلم النافع والعمل الصالح، فالتفسير علم له أصوله وآلاته ومراحله ومدارسه ورجاله وهو فرع التدبر وثمرته، والمقصود منه بيان كلام الله تعالى والنظر في أقوال المفسرين، التدبر فهو النظر المتأمل العميق لآيات الكتاب طلباً لهداياتها وفهمها والاتعاظ بها ومعالجة النفس والواقع بها، وبهذا يكون التدبر أوسع مدلولاً من التفسير فكل نظر بحق يسمى تدبراً، وليس كل تدبر يسمى تفسيراً.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.