فى أوج التصعيد المتبادل بين إيران من جهة والولايات المتحدة والدول الأوروبية الحليفة من جهة أخرى دفعت واشنطن بموقفين متناقضين بخصوص كيفية حل معضلة الأزمة المتفجرة حول الملف النووى الإيرانى. الموقف الأول جاء على لسان وزير الدفاع الأمريكى الجديد لويد أوستن، فى وقت ازدادت فيه الضغوط الأوروبية على إيران للتراجع عن خطوة إنتاج اليورانيوم المعدنى التى أكدتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية (8/2/2021) بقولها أنها “تحققت من وجود 3,6 جرامات من اليورانيوم المعدنى بمنشأة أصفهان”. فقد أعلن البنتاجون أن لويد أوستن وزير الدفاع “يعتقد أنه لا يمكن إيجاد حل فى منطقة الشرق الأوسط دون حل مسألة الملف النووى الإيرانى”.
هذا النوع من التصريحات يمكن وصفه بـ “التصريحات الملتبسة” لأنه يحتمل أكثر من تفسير، وربما يكون هذا ما يعنيه وزير الدفاع الأمريكى. فهو يحمل تهديداً عسكرياً، بمعنى التلويح بالحل العسكرى لأزمة الملف النووى الإيرانى كحل، ربما يكون وحيداً، لاستعادة الأمن والاستقرار للشرق الأوسط، كما تريده الإدارة الأمريكية الجديدة، وربما يكون يستهدف العكس، أى التأكيد على أنه لا أمل فى أمن واستقرار الشرق الأوسط دون إيجاد “حل سياسى” لأزمة البرنامج النووى الإيرانى.
إلى جانب هذه الحيرة التى يتضمنها تصريح وزير الدفاع الأمريكى الجديد، غير المندفع فى الخوض كثيراً فى معترك التصريحات وإعلان المواقف السياسية، جاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن لتعلى من شأن “الحلول الدبلوماسية” لأزمة البرنامج النووى الإيرانى. فعلى الرغم من إعادة تأكيده لرفض الرئيس الأمريكى جو بايدن من تمكين إيران من امتلاك أسلحة نووية، ورفض الإدارة الأمريكية لمبادرة “الاقتراحات المتزامنة” التى طرحها وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف الأسبوع الماضى وتقضى بأن يتزامن إعلان واشنطن رفع العقوبات عن إيران مع تزامن تراجع إيران عن خطواتها التصعيدية النووية الأخيرة سواء رفع نسبة تخصيب اليورانيوم من 3,67% إلى 20%، والاتجاه نحو إنتاج معدن اليورانيوم الذى ربما يستخدم فى إنتاج أسلحة نووية، أو الاستعداد للانسحاب الإيرانى من بروتوكول التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية الخاص بتمكين مفتشى الوكالة من “الدخول الحر والمفاجئ” إلى منشآت إيران النووية. فعلى الرغم من كل ذلك اعتبر بلينكن أن “الدبلوماسية المبدئية” هى المسار الأفضل لضمان عدم امتلاك إيران للسلاح النووى” وفى معرض الاحتفاء بأداء صديقه روبرت مالى الذى عينته إدارة بايدن مبعوثاً خاصاً لإيران، رغم اعتراضات حادة من أصدقاء إسرائيل وحلفاء الرئيس السابق دونالد ترامب، كتب بلينكن تغريدة عبر “تويتر” قال فيها أن “الدبلوماسية المبدئية هى أفضل سبيل لعدم حصول إيران على سلاح نووى”. لم يشرح ولم يوضح بلينكن ماذا يعنى بـ “الدبلوماسية المبدئية” لكن يبدو أن واشنطن تريد بالدبلوماسية وبالمسار الدبلوماسى تحقيق نجاحات تراكمية تؤدى فى النهاية إلى “إعادة بناء الثقة” مع إيران والاقتراب خطوة خطوة نحو انجاز مسار يحقق العودة الأمريكية للاتفاق ويقنع إيران هى الأخرى بالتراجع عن خطواتها التصعيدية فى المسار النووى.
توجد العديد من المؤشرات التى تدل على ذلك كما توجد أيضاً مؤشرات تدل على أن هذه الرسالة وصلت بهذا المعنى إلى إيران، ولا يبقى إلا التفاهم الأمريكى مع الحلفاء والشركاء بهذا الخصوص. من أبرز هذه المؤشرات الأميركية التصريحات التى أدلت بها “جين ساكى” المتحدثة باسم البيت الأبيض وقالت فيها أنه “إذا عادت إيران إلى الامتثال الكامل لالتزاماتها، بموجب الاتفاق النووى، فستفعل الولايات المتحدة الشئ نفسه”. هذا عن تأكيد جدية النوايا الأمريكية للعودة إلى الاتفاق، أما عن الوسيلة فقالت أنه “من الممكن أن تكون هناك محادثات مع الشركاء والحلفاء من خلال مجموعة 5+1، لكن ذلك سيكون الخطوة التالية فى العملية”. ربما تكون هذه هى المرة الأولى التى يصدر فيها تصريح عن إدارة جو بايدن تتم فيه الإشارة إلى “مجموعة 5+1” وهى مجموعة القوى الدولية التى انجزت الاتفاق النووى عام 2015 وتضم الدول الكبرى الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن : (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا إضافة إلى ألمانيا). العودة لها معنيان، أولهما أن الولايات المتحدة عادت لتعتبر نفسها طرفاً معنياً بالاتفاق النووى الذى شاركت فى صنعه، ما يعنى وجود حرص أمريكى للعودة إلى الاتفاق. وثانيهما، مد اليد الأمريكية للشركاء فى هذا الاتفاق وخاصة كل من روسيا والصين إلى جانب الحلفاء الأوروبيين بالطبع (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) لتجديد التباحث فى العودة الثنائية الأمريكية والإيرانية للاتفاق.
الأوروبيون دخلوا على هذا الخط الدبلوماسى فعلى الرغم من اتفاق فرنسا مع كل من ألمانيا وبريطانيا على إدانة التصعيد النووى الإيرانى واستنكاره والتحذير منه، إلا أنهم حرصوا على تدعيم المنحى الدبلوماسى الأمريكى واعتبروه “فرصة” لتجاوز الخطر، وزارة الخارجية الفرنسية قالت فى بيان خاص لها أنه “من أجل الحفاظ على الحيز السياسى للبحث عن حل تفاوضى، ندعو إيران إلى تجنب اتخاذ أى تدبير جديد يؤدى إلى مفاقمة الوضع” ورحب بيان الخارجية الفرنسية برغبة الإدارة الأمريكية الجديدة فى العودة إلى “مقاربة دبلوماسية” للملف النووى الإيرانى، كما شاركت فرنسا مع كل من ألمانيا وبريطانيا فى إصدار بيان ثلاثى حثت فيه إيران على “عدم تقويض فرصة تجدد الدبلوماسية لتحقيق كامل الاتفاق النووى”.
الملاحظ بهذا الخصوص أن الحديث عن “تجدد فرصة الدبلوماسية” لحل الأزمة جاء خالياً من الشروط الأمريكية السابقة لإدارة ترامب التى كانت الدول الأوروبية تستنكرها ثم عادت لتؤيدها وخاصة الإعراب عن ضرورة التوصل إلى اتفاق جديد أكثر صرامة فى منع إيران منعاً نهائياً من امتلاك سلاح نووى ثم إدخال القدرات الصاروخية الباليسيتية الإيرانية والسياسة الإقليمية الإيرانية ضمن التزامات هذا الاتفاق الجديد الذى كان قد كثر الحديث حوله، إضافة إلى شرط رابع هو إشراك الدول الإقليمية خاصة إسرائيل والسعودية فى مفاوضات أى اتفاق جديد مع إيران. هذا التراجع عن الحديث عن اتفاق جديد يعد من أهم المؤشرات لجدية الحديث عن المسار الدبلوماسى.
روسيا التقطت، بدورها، هذا الخيط، ويبدو أنها لم تجد لديها فرصة قوية للتوسط بين واشنطن وطهران بسبب مشاكلها مع الولايات المتحدة وأوروبا فى ملفات كثيرة ، لذلك باتت أقرب إلى الدخول فى مسار “الشراكة الدبلوماسية الجماعية” ضمن إطار “مجموعة 5+1″، لكنها حذرت الإدارة الأمريكية من المماطلة فى رفع العقوبات عن إيران، ودعت على لسان سيرجى ريايكوف نائب وزير الخارجية الروسى كل من واشنطن وأوروبا لاتخاذ خطوة أولى لاستعادة الاتفاق برفع العقوبات.
تأتى المؤشرات الإيرانية لترفع من نسبة التفاؤل بهذا المسار الدبلوماسى الذى يبدو أنه الأرجح الآن بالنسبة للأمريكيين. ففى خطاب الاحتفال بعيد الثورة الإيرانية الثانى والأربعين تحدث الرئيس الإيرانى حسن روحانى بحماس عن “نهاية قريبة للعقوبات” وكان لافتاً استخدامه، هو الآخر، لصيغة “مجموعة 5+1” فى حديثه عن المقاربات الدبلوماسية المحتملة بدلاً من الحديث عن “مجموعة 4+1” التى سبق أن استخدمتها إيران منذ الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى.
هذا التحول فى الحديث إلى صيغة “5+1” يعنى أن طهران باتت شبه مؤكدة بوجود فرصة لإعادة إحياء هذا المسار الدبلوماسى الجماعى. وهنا يجدر التساؤل: هل عادت طهران لتقبل إعادة التفاوض على الاتفاق النووى الذى كانت ترفضه بشدة؟ وهل ينوى جو بايدن وإدارته خوض تجربة “صبر إستراتيجى تفاوضى” مع إيران؟ وإذا كان ينوى ذلك هل يملك القدرة عليه؟ وإذا لم يكن يملك القدرة فما هى البدائل فى ظل تحولاته المهمة فى إدارة علاقاته مع حلفاء واشنطن الإقليميين؟
أسئلة تفاقم من التحديات التى تتهدد مسار “الدبلوماسية المبدئية” الجديد التى أختارت إدارة بايدن أن تخوض غماره، كما أنها تحمل معها مخاطر ما ألمح إليه لويد أوستن من احتمال، ولو ضئيل، للعودة إلى التلويح ببدائل الحل الدبلوماسى.
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 16 / 2 / 2021م