القرآن الكريم هو النور الذي يهدي البشرية إلى الطريق المستقيم، كانت الحاجة ماسة إلى تدبر آيات الذكر الحكيم والتعايش معها، عملاً بقول “ابن القيّم”: “إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضُرْ حضورَ مَنْ يُخاطبُهُ به مَنْ تكلَّم به – سبحانه – منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله”.
ابن القيم الجوزية: (محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي، ويكنّى بأبي عبد اللَّه، ولقّب بشمس الدين 1292 – 1350 م).
التدبر أمرٌ إلهي، وفهم معاني القرآن الكريم وألفاظه والتفكر فيها، بما تضم من أسرار لا تعدّ ولا تُحصى، إلا أن السؤال المهم هنا، هل يتحقق الخشوع والتدبر مع كثرة القراءة والعجلة دون تحقق التأني؟
في غياب التعقل والتأمل والتدبر والفهم الصحيح لمعاني وأسرار القرآن الكريم، لا يمكن لذلك أن يتحقق، وما نلاحظه في السنوات الأخيرة، بُعد الناس عن القراءة بشكل عام، وتأمل وتدبر القرآن الكريم على وجه الخصوص، فلو توقفوا وتأملوا مليّاً، حتماً سيتدبرون القرآن المليء بالأحكام الشرعية والعبادات والمقاصد والدرر والكنوز التي لا تعد ولا تُحصى، يقول الزركشي في هذا السياق: (لن ينتفع به -أي القرآن – إلا من أخلص له قلبه ونيته، وتدبّر الكتاب في عقله وسمعه، وعمّر به قلبه، وأعمل به جوارحه، وجعله سميره في ليله ونهاره وتمسك به وتدبّره)، فالقلب يجد راحته وسكينته في تدبر القرآن الكريم.
الإمام الزركشي: (بدر الدين الزركشي أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المصري، فقيه ومحدث، 1344 – 1392 م).
كما أن القلب يجد راحته في تدبر آيات الذكر الحكيم وتعقل أهدافها ومقاصدها والوقوف على أسرارها فهو يتذوق حلاوة كلام الله عز وجل الحكيم الخبير فيجد لقلبه حياة أخرى ولقراءته طعماً ولتضرعه لذة ثم تتجدد له خواطر ومعان جديدة تتدفق مع تكرار القراءة والخشوع والتدبر، خاصة وأن الله تبارك وتعالى، وصف الغافلون عن التدبر لآيات الذكر الحكيم بأقبح الأوصاف، قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).
وعليه، فإن التأصيل اللغوي لكلمة “التدبر”، تعني، النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه، وفي هذا الإطار قال الجرجاني: “التدبر هو عبارة عن النظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكر تصرف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب”، الجدير بالذكر هنا، أن التدبر من الكلمات الواردة في القرآن على أصل معناها اللغوي ولم تنتقل إلى اصطلاح شرعي جديد وهذا حال أغلب كلمات القرآن، وبناءً عليه، يكون التدبر حقيقة لغوية متفق على معناها ولم ينتقل إلى حقيقة شرعية، وإنما يفسر عند الإضافة بما يناسب المضاف إليه…، ثم إنَّ التدبر قد أصبح حقيقة عرفية عند المفسرين والمراد بها تدبر القرآن فإذا أطلق التدبر عندهم فالمراد به أخص من المدلول العام للتدبر.
الجرجاني: (أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، نحوي وفقيه، 1009 – 1078 م).
لم يختلف المفسرون في تعريف التدبر بالخروج عن معناه اللغوي، وكلهم أبحروا تقريباً في ذات السياق، فبالنظر إلى تعريف التدبر عند الإمام الآلوسي كما أورده في تفسير روح المعاني، نجد بأنه قال عنه: “وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل سواء أكان نظراً في حقيقة الشيء وأجزائه أو سوابقه وأسبابه أو لواحقه وأعقابه”، أما الإمام الرازي فقد أورد التدبر في التفسير الكبير بأنه “التدبير والتدبر: عبارة عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها”، بالتالي، نستنتج أن كلام أئمة التفسير في معنى تدبر القرآن، أنه يراد به تفهم معاني ألفاظه، والتفكر فيما تدل عليه آياته مطابقة وما دخل في ضمنها وما لا تتم تلك المعاني إلا به مما لم يعرج اللفظ على ذكره من الإشارات والتنبيهات وانتفاع القلب بذلك بخشوعه عند مواعظه وخضوعه لأوامره وأخذ العبرة منه.
الإمام الآلوسي، (محمود شهاب الدين أبو الثناء الحسيني الآلوسي، مفسر، ومحدث، وفقيه، 1802 – 1854 م)، الإمام الرازي، (أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي الرازي، مفسر ومحدث وفقيه 1149 – 1210 م).
من هنا، إن التدبر يشتمل على الوقوف على معاني الألفاظ ومعرفة المقصود بها، إلى جانب التفكر والتأمل في ما ترشد إليه الآية أو الآيات من خلال ما يفهم من السياق أو تركيب الجمل، أيضاً، اتعاظ العقل والاعتبار بحججه والانقياد والاستجابة والخضوع لأوامره والتصديق والإيمان بأخباره، بالتالي، إن التدبر أصل الاستنباط، فلا يمكن الاستنباط من النص قبل تدبره والتأمل في معانيه والذي هو خاص بأولي العلم، قال تبارك وتعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)، فوجه الأمر بالتدبر للعموم، وخصَّ الاستنباط بأولي العلم فهو لدقائق الأمور، لذا خُصَّ بالعلماء دون غيرهم، ومن خلال النظر في كلام المفسرين ندرك أن التدبر لا يكون إلا بالتأمل وفي ذلك يقول البيضاوي: ” أفلا يتدبرون القرآن” أي يتأملون في معانيه، التدبر مبني على معرفة التفسير وفهم المعاني، قال الزمخشري: “فمعنى تدبر القرآن” تأمل معانيه وتبصر ما فيه”.
الإمام البيضاوي: (الإمام القاضي المفسر ناصر الدين أبو سعيد أو أبو الخير عبد الله بن أبي القاسم عمر بن محمد بن أبي الحسن علي البيضاوي ت 685 هـ)، الإمام الزمخشري: (جار الله، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري.من أئمة العلم بالدين والتفسير، 1075 – 1144 م).
أما التفكر، فهو تصرف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب، وكل من التدبر والتفكر من عمل القلب وحده إلا أن التفكر تصرف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب وكلاهما لا يشترط فيه الديمومة والاستمرار بخلاف التأمل، وهناك فرق جوهري آخر بين التأمل وكل من التفكر والتدبر وهو أن التأمل قد يحدث بالبصر وحده أو بالبصر يعقبه التفكر، أما التفكر والتدبر فبالبصيرة وحدها إذ هما من أعمال القلب، والعبرة أن التأمل قد يكون بالبصر مع استمرار وتأنٍ يؤدي إلى استخلاص العبرة، وأن التفكير جولة الفكر في الأمر الذي تكون له صورة عقلية عن طريق الدليل، أما التدبر الذي له صورة عقلية تكون بالنظر في عواقب الأمور. وهذه المعاني وإن كانت متقاربة إلا أنها ليست واحدة وإذا ذكر بعض أهل العلم أنها مترادفة فإنما يقصد فقط الترادف الجزئي.
أيضاً لدينا، التذكر والاعتبار والاستبصار، التذكر: من الذكر وهو ضد النسيان وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب، واختير له بناء (التفعل) لحصوله بعد مهلة وتدرج، كالتبصر والتفهم والتعلم وهو إحضار العلم الذي يجب مراعاته بعد ذهوله وغيبته عنه، كما في قوله تبارك وتعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)، وأما الاستبصار كما يقول ابن القيم: (فهو استفعال من التبصر وهو تبين الأمر وانكشافه وتجليه للبصيرة).
أخيراً ولإتمام هذا الجزء من السلسلة المستمرة من موضوع التدبر والإبحار في قواعده وجمالياته المختلفة، نلخص أهم العبر المستفادة من التدبر، وهي أن المفردات المتعلقة بالتدبر متقاربة تجتمع في شيء وتفترق في آخر لكنها ليست مترادفة بالكلية، والتدبر مبني على معرفة التفسير وفهم المعاني، وصحة التدبر مرهونة بسلامة القلب، كما أن اتباع المتشابه صاد عن التدبر، وأن ثمرة التدبر تحصل بالدوام والاستمرار عليه، كما أن التدبر دافع لموهم التعارض بين الآيات القرآنية، كما أن الأمربالتدبر والحث عليه يدل على أن القرآن الكريم معلوم المعنى.
الجدير بالذكر أنه في الجزء القادم سنبحث تنوع الأسلوب القرآني في دعوته للتدبر.
*
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.