إن القرآن الكريم بيان ومعجزة، والمعجزة، أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، فخرق العادة يعني جريانه على غير ما ألف الناس، والاقتران بالتحدي يقصرها على الرسل المبلغين عن الله، إذ هو وحده تبارك وتعالى الذي يملك قطع حجة الجاحدين والسلامة من المعارضة تعزل الشعوذة التي تبدو في ظاهرها خرقاً للعادة.
لكن الإعجاز عندما يقترن ببناء لغوي سليم دائماً ما يخرج بقواعد تغني وتثري السياق والدلالات القرآنية وتقوي الإعجاز أياً كان نوعه، علمياً أو لغوياً، لأن البناء اللغوي، هو القاعدة الأساسية في الإعجاز القرآني، وقد استخدم القرآن الكريم قواعد اللغة العربية وجعلها مطواعة لأغراضه ومقاصده وتراكيبه، ليضع منه نظماً بديعاً محكم بنيانه، مرصوص بنانه، ثم إن المفسرين لم يدخروا جهداً في محاولتهم الكشف عن أساليب البناء اللغوي في القرآن مبرزين معالم اهتمامهم باللغة العربية في تفسيرهم للقرآن الكريم، وبالأخص ما له علاقة بقضايا البناء اللغوي نحواً وصرفاً، بلاغة ودلالة، فأكثرَ المفسرون من عرضهم لقضايا والتدليل عليها من آيات القرآن الكريم، موضحين في الوقت ذاته القواعد المبنية عليها.
بالتالي، يجب على المفسر ألا يخالف القواعد اللغوية الواضحة المقررة في التفاسير، إلى جانب، الابتعاد عن الاحتمالات والنظريات التي تخضع للتغيير حتى لا يترتب على هذا التفسير العلمي نتائج سيئة أما بالنسبة للنظريات الراجحة فلا بأس باستخدامها والاستئناس بها لإلقاء الأضواء العلمية على الآية لتقريب فهم الناس لها، وهذا لا يتحقق إن لم يكن المفسر محيطاً بعلوم القرآن، قال تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها)، لقد كان الناس في صدر الإسلام يحملونها على هذه الحركة الحسِّية للشمس، والتي نراها يومياً؛ إذ تنتقل الشمس من المشرق إلى المغرب، في حين أن هذه الحركة ما هي إلاّ حركة كاذبة؛ لكونها من خداع البصر، والحقيقة أن الذي يتحرّك في البين هي الأرض، وبحركتها نحسب الشمس متحرِّكة، وتحدث القرآن عن جريان للشمس، وليس حركتها، وقد أثبتت العلوم الحديثة أن للشمس طبيعة غازية، وأنها في حالة جريان وموران مستمرّ في الفضاء بفعل الانفجارات الذرية الحاصلة فيها، وليست الشمس مجرّد كرة جامدة تتحرّك، بل هي جاريةٌ مثل الماء، وهذا إعجاز علمي، ففي القرآن إشارات عابرةً إلى أسرار الوجود، لا يمكن فهم حقيقتها إلاّ بعد معرفة جملة من العلوم والوقوف على كثير من أسرار الطبيعة الكامنة التي كشفها العلم، وسيكشفها على استمرار، وهي خير وسيلة نافعة للحصول على فهم كتاب الله.
قد اقتضت سنة الله تعالى، في خلقه أن يؤيد رسله بالآيات التي هي المعجزات بالمعنى الاصطلاحي في مواجهة تحديات الجاحدين الذين ينكرون رسالات الله عناداً واستكباراً، تحت سلطان الترف وتسفل الإدراك من جهة، ومن جهة أخرى لإمداد المؤمنين على مدى الزمن بطاقات من قوة اليقين، ونور البصيرة، وثبات القلوب في مواجهة التحديات المادية الهائلة التي يهاجم بها المعاندون المؤمنين في ميدان الفكر وفي ميدان الحرب على السواء، فضياء الرسالة المحمدية الخاتمة، ختمت الرسالة وسطرت كلها بين دفتي القرآن الكريم، بأفصح بيان وأوضحه، بحيث لا يعجز عن إدراكه أقل الناس فهماً ووعياً، فهذا الكون غيب وشهادة، الله حاكم على الغيب والشهادة، قادر على تدمير كل مشهود ومحسوس كما هو قادر على بركته ونمائه وازدهاره إذا كان هناك قبس من النور في قلوب الناس يرقى بهم على التدبر والتأمل إلى الإيمان بكل مغيب عن المدارك من حقائق الوجود، وبالله حاكماً رحيماً بالمؤمنين، قاهراً للجاحدين، حتى تتحقق عالمية الرسالة على مدى الزمان على نور هذا البيان القرآني.
ومن وجوه عظمة القرآن الكريم، جمعه للبيان والإعجاز، فلا تكون الآية الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، منفصلة عن البيان كما كان ذلك في رسالة موسى وعيسى عليهما السلام، أما القرآن فلمّا كان مصدقاً للتوراة والإنجيل ومهيمناً عليهماً، وجامعاً لحقائقهما، فقد اجتمع فى صلبه البلاغ المبين، والإعجاز القائم مدى الدهر، وما ذاك إلّا لأنه كتاب لم ينزل لهداية العرب خاصة، وإنما نزل لهداية البشرية كلها فى عصر النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد عصره وإلى أن تقوم الساعة، بالتالي، إن استبطان القرآن للبيان والإعجاز معاً في وقت واحد دليلاً على صدقه وعالمية رسالته، ولقد كان القرآن وما يزال وافياً بحاجات البشر في الإقناع والتحدي، وما زال العلم يكشف من أسراره كل يوم عن جديد ويكشف عن أخطاء العلم في أحدث نظرياته، فإنكار إعجازه يعتبر تآمراً على دعوة الإسلام، وتجريداً له من سلاحه الهادف الذي زوّده الله تبارك وتعالى به، لقد صحح القرآن كثيراً من النظريات العلمية التي كانت سائدة في عصر التنزيل، وسجّل في مكان تلك النظريات حقائق ثابتة لا تقبل التبديل ولا التغيير، فكان ذلك إلى جانب استعمال القرآن للحقائق الكونية في الدعوة إلى الخالق الحكيم المبدع تحدياً للعقل البشري بإحقاق الحق مكان الباطل على يد رسول أمّيّ ما كان يتلو كتاباً ولا يخطّه بيمين.
تعد معرفة اللغة العربية من أهم الأدوات لفهم القرآن الكريم وتفسيره، إذ القرآن نزل باللسان العربي، فلا شك أنه لا يصح فهمه وتفسيره إلا عن طريق ذات اللسان الذي نزل به الروح الأمين على قلب النبي صلى الله عليه وآله سلم، ولقد أدرك العلماء أهمية اللغة العربية في فهم القرآن وتفسيره، وحذروا من تفسير كتاب الله من غير علم بالعربية، في هذا السياق قال ابن تيمية: (فإن الله تعالى لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغا عنه للكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به؛ لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط اللسان، وصارت معرفته من الدين، وصار اعتبار التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، في جميع أمورهم، واللسان تقارنه أمور أخرى: من العلوم والأخلاق، فإن العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله وفيما يكرهه، فلهذا أيضا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين الأولين، في أقوالهم وأعمالهم، وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة)، ويتطابق ذلك مع ما قاله الشاطبي: (القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة، لأن الله تعالى يقول “إنا أنزلناه قرآنا عربيا”)، بالتالي إن اللغة العربية ضرورية لفهم القرآن الكريم وهذا ما أكد عليه ابن عاشور بقوله: (أما العربية فالمراد منها معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم. ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان. ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين).
ابن تيمية (شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن مجد الدين أبي البركات عبد السلام النميري الحراني فقيه ومحدث ومفسر وفيلسوف ومتكلم وعالم مسلم مجتهد، 661 هـ – 728 هـ)، الإمام الشاطبي (أبو اسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي، من علماء الأندلس والإمام العلَّامة المحقِّق، القدوة الحافظ الجليل المجتهد، وفاة 1388 م).
صدق الله تعالى الذي تحدّى العالم كله في كل العصور في معرض الدلالة على وحدانيته وتفرده بالسلطان، وذلك حينما قرر قيام دولة الإسلام على الأرض، وعجزت كل القوى العالمية عن أن تقضي على مجدها، قال تبارك وتعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون)، هذا الإعجاز نطاق البلاغة والفصاحة، وتصحيح النظريات العلمية، والتنبؤ بالمستقبل، إلى نطاق السياسة والاجتماع والعلوم التجريبية كلها.
واستكمالاً لتفسير سورة طه المباركة، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم، من سورة طه: (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجّدا قالوا آمنا برب هارون وموسى).
هذه الآيات مدهشة، وعلينا تعلم أسرارها، وأن نفهمها فهماً دقيقاً، لأننا ما زلنا نؤمن بالسحر، ولا زلنا نتصور أن للسحرة حولاً وقوة، وما زلنا نعتقد أن هنالك من يعمل العمل، ومن يعقد حياة الناس بهذا السحر، وكله كلام لا صحة له وفقاً للقرآن الكريم (إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى)، الساحر خائب فاشل لا يفلح، وإنما لا بد أن يخفق وأن تضيع حيله وأن تنكشف ألاعيبه، بالتالي، لا ينبغي أن يخيفنا السحر ممن يدعون السحر، فالمؤمن الحقيقي لا يمكن أن يهتز للعبة ساحر أو لادعاء ساحر، فالإيمان بالله يعصم من أن يقع الإنسان فريسة في يد إنسان آخر، القادر والعظيم والأعلى هو الله تبارك وتعالى، فكيف يخيفنا من يزعمون أنهم يستخدمون السحر، بالتالي، يجب أن يكون توجهنا إلى الله تبارك وتعالى، توجهاً قاطعاً يرفض كل شيء يتناقض مع الإيمان، وقد أكد القرآن الكريم أن (ولا يفلح الساحر حيث أتى) وحيله لا قيمة لها، ولا يمكن أن يحقق نجاحاً.
يقول الشيخ الشعراوي: القرآن كله في كل جملة وكل آية وكل سورة مبني على الوصل، إلا في فواتح السور بالحروف المقطعة تبنى على الوقف ( ألف – لام – ميم )، وهذا وجه من وجوه الإعجاز، وأن القرآن ليس ميكانيكاً، بل كلام معجز من رب العالمين، وأما في تفسيره للآيات الكريمة، (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجّدا قالوا آمنا برب هارون وموسى)، وهذا أصل المعجزة في عصا موسى، أن تلقف وتبتلع ما يأفكون من السحر وكلمة “تلقف” تعطيك الصورة الحركية السريعة التي تشبه لمح البصر، تقول: تلقفته يعني: أخذته بسرعة وشدة، وهذه هي العلة في العصا أن تلقف ما صنعوا من السحر، وأما الساحر مهما أوتي من قدرة على تسخير الجن لعمل شيء فوق طاقة الإنس، فلن يعطيه ذلك ميزة على غيره، ولن تكون له قدرة على شيء.
الشيخ محمد متولي الشعراوي، (1911 – 1998)، إمام الدعاة عالم دين ووزير أوقاف مصري سابق. يعد من أشهر مفسري معاني القرآن الكريم في العصر الحديث؛ حيث عمل على تفسير القرآن الكريم بطرق مبسطة وعامية مما جعله يستطيع الوصول لشريحة أكبر من المسلمين في جميع أنحاء العالم العربي.
وأما الإمام البغوي فيقول عن الآيات (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجّدا قالوا آمنا برب هارون وموسى)، (وألق ما في يمينك)، يعني العصا (تلقف) تلتقم، وتبتلع (ما صنعوا) قرأ ابن عامر (تلقف) برفع الفاء ها هنا، وقرأ الآخرون: بالجزم على جواب الأمر (إنما صنعوا) أي، الذي صنعوا (كيد ساحر) أي، حيلة سحر هكذا. قرأ حمزة، والكسائي: بكسر السين بلا ألف، وقرأ الآخرون: ساحر لأن إضافة الكيد إلى الفاعل أولى من إضافته إلى الفعل، وإن كان ذلك لا يمنع في العربية (ولا يفلح الساحر حيث أتى) من الأرض، أما في تفسير التحرير والتنوير، لابن عاشور في قراءات متعددة، عبّر عن العصا بـ “مَا” الموصولة تذكيراً له بيوم التكليم إذ قال له: (وما تلك بيمينك يا موسى) ليحصل له الاطمئنان بأنها صائرة إلى الحالة التي صارت إليها يومئذ، ولذلك لم يقل له، وألق عصاك، والتلقّف: الابتلاع، وقرأه الجمهور بجزم (تلقّفْ في جواب قوله وَأَلْقِ). وقرأه ابن ذكوان برفع (تلقّف على الاستئناف)، وقرأ الجمهور تلَقّف بفتح اللام وتشديد القاف، وقرأه حفص بسكون اللاّم وفتح القاف من لقِف كفرِح، وتعليق الحكم بوصف الساحر يقتضي أن نفي الفلاح عن الساحر في أمور السحر لا في تجارة أو غيرها، وهذا تأكيد للعموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي، لأنّ عموم الأشياء يستلزم عموم الأمكنة التي تقع فيه.
الإمام البغوي، (1044 – 1122 م)، إمام حافظ وفقيه ومجتهد، “أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي”، ويلقب أيضاً بركن الدين ومحي السنة. أحد العلماء الذين خدموا القرآن والسنة النبوية، وابن عاشور، محمد الطاهر بن عاشور (1879 – 1973م)، عالم وفقيه تونسي، أسرته منحدرة من الأندلس ترجع أصولها إلى أشراف المغرب الأدارسة تعلم بجامع الزيتونة ثم أصبح من كبار أساتذته.
بالتالي، لقد كان العرب في عهد نزول القرآن على جانب كبير من الإحاطة بلغتهم، ومعرفة أساليبها وإدراك حقائقها، فكانوا بذلك أقدر الناس على فهم القرآن وإدراك معانيه واستيعاب مراميه، ومن جاء بعدهم كان أقل درجة أو درجات لبعدهم عن صفاء اللغة العربية، وذلك لما عم الإسلام الأرض واختلط العرب بالعجم وتولد منهم الجيل الذي أصبح يبتعد كلما مر عليه الزمن، عن اللغة الأم وصفائها، بالتالي، يجب الاهتمام باللغة لإعادة الأجيال التائهة، وما سورة طه التي من السور الطوال في القرآن الكريم التي تحدثت عن أصول الدين الإسلامي وعن البعث والنشور، كما تحدثت في عدد كبير من آياتها عن قصة نبي الله موسى عليه السلام، وكثرت في آياتها لمسات البيان العربي، إلا البداية في محاولة بسيطة لجذب الاهتمام خاصة الشباب العربي والمسلم، وللحديث بقية.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.