كنا في الجزء الأول تكلمنا عن المواطن قبل المسؤول، وعللنا ذلك بأن وعي المواطن هو أساسٌ لكليهما، فوعيُ المواطن يتحكم في وعي الشعوب من جهتين؛ أولاهما أن المسؤولَ مواطنٌ قبل أن يكون مسؤولا، فيتحصلُ الوعي منه مسبقا، فيكونُ مسؤولا واعيا، وأما الثانية ففي حال اختلال المسؤول لسببٍ أو آخر، فالوعي المجتمعي العام سيعمل عليه مواطنوه في الأرض وعبر مراكزهم الرسمية لتقويم المسؤول ومحاسبته بأساليبَ مختلفةٍ ومتعددة متاحة، تعتمد نجاعتُها على مشرِّعِ الدولة، وعلى النظام الذي ارتضاه، شفافيةً ومحاسبةً، أو تسترًا وإغفالًا.
من هنا فنحن وفي هذا المقام نعمل على ممارسة دورنا كمواطنين، لنرفعَ درجة الوعي في محاولةٍ لتعريف المؤسسة المختطَفة، ورئيسها المختطِف؛ الأسبابِ، والأعراضِ، والعلاجِ، مؤدين بذلك دورَنا التوعويَّ الواجبَ كعشاقِ وطنٍ، ورواد قلمٍ وكلمة، وفي عيننا الله، ثم الوطنُ فجلالةُ السلطان أبقاه الله، محاولين بذلك الانخراطَ في دعوته خلال خطابه الأول، وحثِّه العمانيين على العمل معه يدًا بيدٍ في نهضته المتجددةِ لرفعةِ البلد، وتقويتها، ومحاربة مظاهر السوء فيها حيث وُجدت، وهو دور واجب اتجاه الدولة، ومشرعيها، ونظامها العام بمختلف أوجهه، أمنيةً و مدنيةً و عسكرية.
إن الخطفَ والاختطافَ هو عمليةٌ مُجرَّمةٌ في العموم، تعمل على سلب حرية المختطَف من قبل مختطِفه، وإخراجِه من سياقه الطبيعي، وبالتالي من أدائه الدورَ المنوطَ به في هذه الحياة، وهذا الاختطاف معنيٌّ بمن وقع عليه الخطف، وهو أيضا معنيٌّ بسياقه، ومن يتأثر به، ويؤثر فيه.
الاختطاف كما يكون على الأعيان يكون أيضا على الدول ومؤسساتها سواءً بسواء، وكلما كثر الاختطاف كثر التعطيل وتبلَّغَ الفساد، فالمؤسسة أو الوزارة المختطَفة، هي الوزارة التي يحق عليها التعريف أعلاه بوجهيه؛ إما بتعطيلِ عملها وخطفها عنه، وجعلِها فقط جُدُرا وبناياتٍ وشعاراتٍ فارغةً وكائناتٍ تمشي في الممرات، تستهلك ولا تنتج، أو بأن تعمل المؤسسة المختطَفة على نقيض أهدافها الاستراتيجية المتوقعة منها، وما يُعنى به حقلها، فتهدم ولا تبني، وتُخْرِبُ ولا تصلح، وهو أقبح النوعين.
إن الاختطافَ لا يكون إلا والمختطِفُ المسؤولُ قد أَمِنَ العقوبة، و “مَن أمن العقوبة أساء الأدب”، ولا يأمن العقوبة إلا إن سمح له النظام القائم بذلك، إما عمدا أو تقصيرا وغفلة، ولن يسمح له النظام بذلك إلا إن غلب على أهله الشقاء، فأخفقوا في تنظير النظام وقوانينه، أو نجحوا في التنظير، وأخفقوا أو قصروا بعدُ في تطبيقه، ومن أشد إساءات الأدب اختطافُ المؤسسات من كونها عامةً، والتعاملُ معها وكأنها مزرعة المسؤول، أو مِلكيَّتُه الخاصة.
إن غيابَ الرقابة الشعبية ورقابة الجمهور قبل الرقابة المؤسسية، وغيابَ التمكين لها، له دور رئيس في اختطاف المؤسسات ووجود الوزير والمسؤول المختطِف واستمراره، وأكبر عدو لهذه الرقابة الشعبية هو البيروقراطية والتعقيدات القاتلة، تلك التي تقلل عدد الأبواب التي يمكن أن يلجَ خلالها ذلكم الوعيُّ والنقد الشعبي الجمعي إلى حيث صُنعُ القرار، وإن فَتَحت -هذه البيروقراطية- بابا من أبوابٍ ممكنة جعلت عليه العراقيلَ حتى الوصول، وإن تم الوصول إليه كان عليه من المتاريس والأقفالِ ما يستحيل فتحها، وإن تم فتحها كان الباب صَدِئًا قد التحم بطنُه بظهره، وإطارُه بجداره، ومِقبضُه بمِحبسِه، حتى لا يكاد يُفتح، والحاكم والسلطان من كل ذلك بريء، ولكنه جبنُ الناس وخوفهم، الذي يمنعهم أداءَ حق السلطان عليهم، وواجبَهم اتجاهه واتجاه الوطن، والذي عَبَّرَ عنه والدي رحمة الله عليه في قوله؛
وكمْ قائدٍ يرجو من الناسِ نصحَه… ولكنَّ جبنَ الناسِ فيه التصاممُ
إن وجود الوزراء أو المسؤولين المختطِفين والوزارات والمؤسسات العامة المختطَفة في أي دولة نذير شؤم لها، يعطل الدفع المسنون الذي أثنى الله عليه في كتابه وعلّقَ عليه ذهابَ الفساد والانتصار َعليه فقال؛ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ٢٥١/ البقرة)، وهو ما يُطيل أمد الاختطاف، ويحرم الدولة من مؤسساتها العامة، ويشكل على المدى البعيد خللا ظاهرا في منظومة المواطنة والانتماء لهذا البلد ولأهله، لكثرة مشاعر الغُبن والإحباط والظلم المؤسسي بين أفراده.
لا نشك في القيادة العمانية وعلى رأسهم جلالة السلطان هيثم أنه أحرصُ مَن يهمه محاربة ظاهرة الوزير المختَطِف والوزارة المختطَفة، وما وقد يتولد عنها من فساد بَيِّن، وإفسادٍ ظاهر، وإهدارٍ لمقومات الدولة وإمكاناتها وأموالها، وإضاعةٍ لشبابها وأجيالها، وتضييعٍ لاقتصادها ونموها، وتفريطٍ بخططها الاستراتيجية كرؤية ٢٠٤٠ وغيرها، فقد توَّعدَ السلطان هيثم حفظه الله بالمحاسبة، ونحن لا نشك بصدق الوعد والوعيد من لدن جلالته، ولكن يقلقنا حقيقةالإنجاز، فوجود البيروقراطية والتعقيدات جعلت بعض رؤساء الوحدات المختطِفين ينزلون دركة من الحِطَّة يوظفون أموال الدولة وإمكاناتها في تلبية شعور أناني جاهل انتقاما شخصيا غير محق، ويعبثون بالمروءات، يكسرون المجاديف، ويكذبون ولا يستحيون، ويتسببون في ظلم الناس والدولة على السواء، ولا تزال تلك الخطيئةُ على رأس الوِحدة العامة المختطفة رغم تعاقب السنين، تتمرد وتتعسف يوما بعد يوم غيرَ مبالية ولا مكترثة ولا خائفة من حساب ولا عقاب، وهو ما قد يستشعر به بعض الناس والشهود أنها قد أمِنته، تنحط يوما بعد يوم، لعدم قدرة الرقابة الشعبية من الوصول إلى جلالته مباشرة أو عبر مكتبه، فقد ضُرب بينهم وجلالتَه -عمدا أو عفوا- ببابٍ باطنُه فيه الرحمة بوجود سلطانهم وناصرهم، وظاهره من قبله العذاب في أفئدتهم وهي تعالج شهادتهم، والمسؤولُ المختطِف أمامهم يسرح ويمرح، وسلطانهم المعظم ليس لهم إليه سبيل شكاية ولا استنصار، وكم من وزارة أو وحدة مختطفة يَئْنُ منتسبوها في داخلها بسبب سطوة رئيسهم واختطافه لوحدتهم وتعطيلها وتعطيلهم، ولكثرةِ المفرزات التلقائية من شللية ولوبيات لا يجدر بمؤسسة خاصةٍ فضلا عن عامةٍ تمثل الدولة والسلطان أن تتمثله، غير مكترث رئيسها للدولة وحقوقها ولا لسلطانها، بل يستدعي -بخيانته لأمانته- على سلطانه الكلامَ وسوء الظن، أنه من يمد له، ويدعمه، ويُؤمِّنُ له المظلة المانعة من المحاسبة، والمخلصون يُكرمون سلطانهم عن ذلك ويُجلونه، ويجعلون كل الناس دون عُمان عنده، وإكرامه لهم بخدمتهم لها ولشعبها، لولا الأبوابُ الموصدةُ التي لا تمكنهم من المدافعة وتغيير الواقع والانتصار لوطنهم ولسلطانهم.
إن وجود سبيل وطريق سهل ذي قرار حاسم يعلمه المواطن والمسؤول على حد سواء يُفتحُ للمشفقة قلوبُهم على مكتسبات الوطن ومكنوناته بعيدا عن البيروقراطية، سيكون له أثر كبير في تراجع ظاهرة اختطاف المؤسسات، وتسلط المسؤولين المختطفين على رقاب المخلصين والوطنيين الأحرار الرافضين للفساد بأشكاله، داخلَ وحداتهم وخارجها، ويحفظ الطاقات ويمنع الفوضى المؤسسية، ويرفع عن كاهل الدولة أسباب التردي من ترسبات قاسية، تنخر شيئا فشيئا في نسيجها الاجتماعي والسياسي والأمني المتماسك ليصل حد الترهل، ويومها لات ساعة مندم.
أخيرا هذه دعوة مخلصة وصادقة ومحبة لجلالة السلطان، وهو أول الغيارى العمانيين على مكتسبات النهضة المباركة، ولكل غيور على أرضه، تاريخا وحاضرا ومستقبلا وأجيالا، دعوةٌ حَقَّةٌ لإيجاد السبل وفتحها لوصول صوت مخلصي الشعب ومحبي سلطانه إلى سلطانهم سريعا دون تأخير، دعوةٌ لاستنقاذ أيِّ مؤسسة عامةٍ مختطفة من يد خاطفها وتحريرها ومحاسبته، وأول خطوات الإنقاذ -بجانب فتح قناة التواصل المباشرة مع السلطان- هي قيام مؤسسة مستقلة تابعة لمكتب جلالته، وتحت عنايته الخاصة، على وضع استبيان موضوعي وعلمي مدروس على أداء رئيس الوحدة مباشرة، العملي والسلوكي، وبشكل يحافظ على سرية المشتركين ومدلي الشهادات فيه إلا عن جلالته ومن يثق بهم، يوزع في داخل الوحدة الحكومية وفي خارجها، وعلى كل تعامل أو مصلحة عندها من شركات وأفراد، وسيعمل هذا الاستبيان على تحديد انحراف رئيس الوحدة أو الوزير عبر انحراف وحدته، ومنها يمكن تحديد الوزارة المختطَفة والوزير المختطِف، ليتم بعدها فك أسر هذه الوزارة أو المؤسسة، بفصل وزيرها ومحاسبته قضائيا فيما يثبت عليه من تقصير واختطاف، وإعادة المؤسسة إلى موضعها الصحيح، ومسارها الواجب، لتخدم الدولة وتساعد السلطان في نهضته، فإن كان عندي مثال على الوزير المختطِف والوزارة المختطَفة -وهو مثال واقعي وليس من الخيال، بأدلته وشواهده- فهناك لا شك مَن عنده أمثلة عديدة لظاهرة اختطاف المؤسسات العامة، ستعمل قناة التواصل مع السلطان المباشرة، والاستبيان المعد لذلك على جلائها وتحديدها.
حمى الله عُمان من الخاطفين والمختطفِين من المسؤولين، وحرر الله مؤسساتنا المختطَفة، وحفظ الأمناء الصادقين والمخلصين منهم، ويسر للرقابة الشعبية والجماعية سبيلا إلى السلطان مجدد النهضة هيثم أعزه الله وسدد خطاه مباشرة، يتحمل فيه الشهود شهاداتهم من أجل وطنهم عُمان، مشتركين بذلك في نهضة جلالة السلطان المتجددة لعمانَ قويةً خالية من الفساد، أقلُها على مستوى القيادات والمشرعين والحكومة، ويبقى للأفراد خصوصيتهم، صلحوا أم فسدوا، وعليهم مآلاتها.
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
الجمعة
٢٨ رجب ١٤٤٢ هـ
الموافق ١٢ مارس ٢٠٢١ م
كلَّ عامٍ وعمانُ وسلطانها وشعبها برفعة وعزة بمناسبة حلول ذكرى الإسراء والمعراج على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تسليم