مع الانفتاح الذي طرأ على المجتمعات وتقدمها في مختلف المجالات الحياتية ظهرت ثقافات واحتياجات إنسانية متعددة، لذلك أصبحت معدلات المشاكل الاجتماعية بتزايد، ومع تعقد هذه المشاكل تطورت الأساليب القديمة، كـ (الأخذ بالثأر والانتقام)، وأخذت طرقاً طويلة ومتشعبة، حيث سنت الدول تشريعات ولوائح التنظيمية تهدف الى الحد من الجرائم وتحقيق نسبة عالية من الأمن فيها.
الدساتير كفلت الحقوق والحريات وبما أن جرائم السب والقذف تعتبر من الجرائم التي تؤثر على سمعة الإنسان وشرفه ومكانته الاجتماعية، لأجل ذلك، عالج قانون العقوبات هذا الأمر بسنه مواد صارمة تجاه هذا الموضوع، ويقصد بالسمعة أي المكانة الاجتماعية التي يتمتع بها الشخص في المجتمع، وتتكون من رصيد صفاته موروثة ومكتسبة ومن علاقته بأفراد المجتمع، وتحدد هذه المكانة وفقاً لمعيار موضوعي قوامه تقدير أفراد المجتمع واحترامهم له، ومكانة الشخص تتحد وفقاً للضوابط والقيم السائدة في المجتمع الذي يعيش به، وكما يقصد بالشرف والاعتبار من الوجهة الموضوعية المكانة التي يحتلها الشخص في المجتمع أي أن يعطي الثقة والاحترام اللذين تقضيهما مكانة الاجتماعية، أما الشرف والاعتبار من الوجهة الشخصية فينبغي شعور كل شخص بكرامته وأحاسيسه بأنه يستحق من أفراد المجتمع معاملته واحتراماً متفقين مع الشعور.
ومن الناحية الشرعية، كلنا يعلم أن الإنسان عموماً، والمسلم خصوصاً، مأمور بأن يحفظ لسانه، وكل كلمة يتكلمها العبد محصاة عليه، قال تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، وقذف المسلم من كبائر الذنوب، ومن المحرمات، بالتالي، القذف لغةً: الرمي، واشتهر استعماله في رمي المرأة المحصنة، أو الرجل المحصن بالزنى، أو ما في معناه بالألفاظ الكريهة، أما القذف شرعاً، الرمي بالزنى، أما العقوبة شرعاً، فهي أنه إذا ثبت القذف على القاذف فحدد الشرع ثلاث عقوبات، الأولى مادية وهي أن يجلد ثمانين جلدة، أما الثانية فهي أدبية، وهي عدم قبول شهادة القاذف أبداً، والثالثة، الحكم بفسقه لأنه يصبح غير عدل عند الله، وعند الناس، وهذا متفق عليه إذا لم يتب القاذف.
ومن الناحية القانونية، القذف قانوناً، هو إسناد واقعة معينة للغير بشكل علني توجب عقابه قانوناً، ومثال ذلك قيام شخص باتهام آخر بأنه مزور أو سارق أو خائن للأمانة، ولا شك أن هذه الوقائع إذا صحت نسبتها للغير تشكل جريمة يعاقب عليها القانون أواتهام شخص لآخر بوقائع تمس شرفه أو كرامته أو تعرضه لبغض الناس واحتقارهم، ومثال ذلك إذا قام شخص باتهام آخر بشرب الخمر أو إقراض الغير بربا، بينما يقصد بالسب قيام شخص بتوجيه ألفاظ تمس شرف وكرامة شخص آخر ومثال ذلك هو قيام شخص بتوجيه ألفاظ خارجة وشتائم لشخص آخر، ولقد رصد قانون العقوبات عقوبة لكل جريمة، حيث يعاقب بالحبس بمدة يحددها الشارع، أو بدفع غرامة كل من قذف غيره علناً، ويتم تغليظ العقوبة إذا كان المجني عليه موظفاً عاماً، بينما يُعاقب بالحبس أو الغرامة مدة أقل من غيره كل من سبَّ غيره علناً، بأن وجه إليه ألفاظاً تمس شرفه أو كرامته، والجدير بالذكر أن العقوبة يتم تغليظها إذا ارتكبت علانيةً وتعتبر وسائل التواصل الاجتماعي أحد طرق العلانية التي يعتد بها القانون، بمعنى أنه إذا قام شخص بقذف أو سب شخص آخر باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي يتحقق شرط العلانية ويتم تغليظ العقوبة.
وبمناسبة التطور التكنولوجي وحلول وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة موضع الصدارة في التواصل بين الناس وتقديراً لخطورة ذلك فقد اهتم القانون بحماية الحياة الخاصة والعائلية للأفراد، وذلك لكل من يقوم بالنشر بإحدى طرق العلانية أخباراً، أو صوراً، أو تعليقات، تتصل بأسرار الحياة الخاصة أو العائلية للأفراد، ولو كانت صحيحة.
بالعودة إلى الشريعة الإسلامية، فقد حمت الشريعة أعراض الناس وسمعتهم وكرامتهم، وقررت عقوبات رادعة لكل من يتطاول على أعراض النساء أو الرجال بفعل أو قول، حرصاً على الحرمات والكرامات، وتوفيراً لكل أشكال الأمن النفسي للأفراد والجماعات، ومن بين العقوبات العادلة التي قررتها شريعة الإسلام، حرصاً على أعراض الناس وسمعتهم عقوبة “حد القذف”، وهي عقوبة كما يؤكد علماء الشريعة وأساتذة الفقه، حاسمة وكفيلة بالقضاء على كل ما نشاهده الآن من إسفاف وتطاول على الأعراض سواء في علاقات الناس بعضهم ببعض، أو عن طريق بعض وسائل الإعلام التي تمارس إسفافاً يمس بالأعراض ويشوه السمعة، وعقوبة القذف ورد النص عليها في القرآن الكريم في قول الحق سبحانه: “والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون”، وكعادة الشريعة الإسلامية في كل تشريعاتها وأحكامها المتعلقة بالعقوبات أحاطت تطبيق عقوبة القذف بشروط وضوابط من شأنها تحقق العدالة ومنع وقوع أي قدر من الظلم على من تطبق عليهم العقوبة.
فمن أهم الشروط التي يجب أن تتوافر في القاذف لكي تقام عليه عقوبة القذف أن يكون “بالغاً وعاقلاً مختاراً”، لأن هذه الأمور من أصول التكليف، وإذا لم تتوافر لا يكون الشخص مكلفاً، وبالتالي لا تطبق عليه العقوبة، أما بالنسبة للمقذوف الشخص الذي يتعرض للقذف فقد اشترط فيه الفقهاء أيضاً “العقل”، لأن من فقد عقله لا يتعلق ضرر كبير بقذفه، وهذا لا يمنع من تأديب قاذفه بعقوبة أخرى تعزيرية، حتى لا نسيء الأدب في التعامل مع هؤلاء الذين حرمهم الله من نعمة العقل والتمييز، ومن الشروط التي يجب توافرها في المقذوف وتوجب إقامة حد القذف على القاذف أن يكون المقذوف متمتعاً بحسن السمعة بين الناس، وأن يكون معروفاً في محيطه الاجتماعي بالاستقامة والعفاف والعدالة، لأن المنحرفين من المتوقع منهم ارتكاب الفواحش والمنكرات، واشترط الفقهاء أيضاً أن تكون الألفاظ المقذوف بها الشخص، واضحة الدلالة والمعنى، قد أجمع العلماء على أن حد القذف يثبت بإقرار القاذف على نفسه بأنه قصد من كلامه قذف غيره من البالغين العقلاء ورميهم بفاحشة الزنى، كما تثبت التهمة بشهادة رجلين عدلين بأن فلاناً العاقل البالغ قد قال في حق غيره من البالغين العقلاء أو كتب في حقهم ما يدل دلالة قوية على اتهامهم بالزنى.
وهنا يجب إقامة الحد على القاذف إلا إذا أتى بأربعة شهداء يشهدون معه بأنه بريء مما نسب إليه، وكانت شهاداتهم مقبولة، وحد القذف يراه بعض الفقهاء من حقوق الله ويترتب على ذلك أنه إذا بلغ الحاكم وجب عليه إقامته حتى ولو لم يطلب المقذوف إقامته، ولا يسقط بعفوه، لكن جمهور الفقهاء يصنفونه ضمن حقوق العباد، وبالتالي لا يجوز للحاكم أن يقيم الحد إلا إذا طالب المقذوف بإقامته ويسقط بعفوه.
اليوم، ما أحوجنا في العالم الإسلامي إلى عقوبات رادعة لوقف تطاول المتطاولين على الأعراض، بعد أن انتشر التطاول والإسفاف على ألسنة الناس من دون مراعاة لحرمة دينية ولا لمكانة اجتماعية ولا اعتبار لشرف أو كرامة، وكم زاد هذا الأمر مع تطور التكنولوجيا واستخدامها استخداماً خاطئاً، عبر تصوير دون معرفة الشخص، أو التسجيل له، او تصوير محادثاته وتعميمها، أو نقلها لأشخاص من شأنها أن تخلق مشاكل كثيرة، فالتكنولوجيا مع شديد الأسف يتم استخدامها اليوم بشكل خاطئ، وهذا الأمر فعلاً يحتاج إلى عقوبة رادعة، لأن أضراره وسلبياته هدّامة وقد دمرت حياة أشخاص كثر، لذلك كانت الشريعة واضحة في هذا الشأن، وكذلك القانون الوضعي، إنما مع ازدياد هذا الوضع يجب التعامل بصرامة وحزم أكبر، لوقياة المجتمعات من آفة اللاأخلاق واللاتربية.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.