إن العنایة بتراث الأمة الإسلامية وأعلام الفكر العربي والإسلامي من أهم الدراسات التاریخیة لأنها تحوي في ثناياها الكثير من التفاصيل عن الحضارة العريقة التي نملك بين أيدينا في كتب التراث، ودورنا إحياء هذا التراث، خاصة وأن الأمم المتحضرة مهما ارتقت وتطورت لا يمكن أن تنسى علمائها ومفكريها الذين وضعوا القواعد والأسس لكثير من مفاصل الحياة في مختلف المجالات، ففي تاريخنا الإسلامي شخصيات علمية مهمة أسهمت في تقدم العرب والمسلمين على غيرهم من الأمم والشعوب.
وقد اخترت شخصية من الشخصيات العريقة التي لا بد من سبر أغوارها ودورها في المشاركة ببناء الحضارة ورفدها للفكر العربي إزاء ازدهارها وتعمقها في العلوم والمعارف، هذه الشخصية هي “أبو إسحاق الشيرازي” الذي يعد واحداً من مؤرخي الإسلام المرموقين من خلال ما تركه من مؤلفات قيّمة في الفقه والتاريخ والأدب، واخترت أيضاً شخصية أبي إسحاق الشيرازي ليس لأنه غير معروف، فهو معروف جداً لدى أهل العلم الكبار، لكن بين عامة الناس من جماهير المسلمين لا يعرفون هذه الشخصية المغمورة، وللعلم هو دفين عاصمة السلام بغداد، دونما أدنى اهتمام وهذا برسم دائرة الأوقاف في العراق، فعلى أقل تقدير كتابة لوحة تدل على قبر هذا العالم الجليل، وهذا بالطبع أدى إلى أن الجيل الحالي لا يعرف عنه أي شيء.
أبو إسحاق الشيرازي، الشيخ، الإمام، القدوة، المجتهد، شيخ الإسلام، أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز ابادي، الشيرازي، الشافعي، نزيل بغداد، قيل، لقبه جمال الدين (393 هـ – 476 هـ)، نشأ بمدينة فيروز آباد، كان من أشهر علماء المدارس النظامية في عهد الدولة السلجوقية، وكان إماماً في الفقه والأصول والحديث والشعر، ويعتبر من أشهر علماء العصر السلجوقي، وفّق الله تعالى النظام توفيقاً قلَّ نظيره في التاريخ السياسي، والعلمي، والديني، فقد عاشت مدارسه أمداً طويلاً، وعلى الخصوص نظامية بغداد التي طاولت الزمن زهاء 4 قرون، كان آخر من عرفنا ممن درس فيها صاحب القاموس الفيروز آبادي المتوفى (817 هـ)، فقد زالت في نهاية القرن التاسع الهجري. وأدّت رسالتها في تخريج العلماء، وزوّدت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحاً من الزمن، وبخاصة دوائر القضاء، والحسبة، والاستفتاء، وهي أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الباطنية في مصر، وبلغوا الشمال الأفريقي، إذ تخرج في هذه المدارس جيل تحققت على يديه معظم الغايات التي رسمها نظام الملك، فوجدنا كثيراً من الذين تخرجوا فيها يرحلون إلى أقاليم أخرى لتدريس الفقه الشافعي، والحديث الشريف، ونشر العقيدة في الأمصار التي انتقلوا إليها، أو تولّي مجالس القضاء، أو بعض الوظائف الإدارية المهمة في دواوين الدولة، وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي -أول مدرس بنظامية بغداد- قوله “خرجت إلى خراسان، فما بلغت بلدة، ولا قرية إلا وكان قاضيها، أو مفتيها، أو خطيبها تلميذي، أو من أصحابي”، كما ورد في كتاب “طبقات الشافعية”.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن أول من سُمّي “شيخ الإسلام” هو أبو بكر الصديق، رضوان الله عليه، وفقاً للحافظ السخاوي، كما ورد في كتاب “التراتيب الإدارية لمحمد عبدالحي الكتاني”، وهذا الوصف إنما هو من باب التقدير والعرفان لجهود العلماء المسلمين، لا من باب حصر الوصف بشخص بعينه، مع الإشارة أيضاً إلى ان هناك أكثر من عالم إسلامي يحملون هذا الوصف تحبباً لا تفرداً، وأنا كـ “عبد العزيز” شخصياً أتحفظ على هذه الألقاب فلا شيخ للإسلام من وجهة نظري، وهي ألقاب تناقلت بين الناس في ذاك الزمان، وما نقلي لها إلا من باب الأمانة العلمية، لا من باب التفرد بها أو تبنّيها، لذا فهذه التسمية ليست حكراً على أحد، لكن للأمانة التأريخية، وللفئات التي لا تقرأ يتصورون أن هذا اللقب خاص وحصري وحكراً على شخصية معينة، وخاصة أهل نجد، الذين خصصوا هذه التسمية لشيخ الإسلام “ابن تيمية” من علماء القرن السادس الهجري (661 هـ – 728 هـ) ما يعني أن هناك الكثير من العلماء قبله، بالتالي أنا هنا أنقل أمانة علمية، ولذا اقتضى التنويه.
بالتالي، نشأة الشيرازي في فيروز آباد لعبت دوراً مهماً في صقل شخصيته العلمية، فتفقه على عدد من الشيوخ ذائعة الصيت في ذلك الوقت، فتتلمذ على يد الشيخ أبي عبدالله ابن البيضاوي في مدينة شيراز، وأبي أحمد عبد الوهاب بن محمد بن رامين البغدادي، وأبي عبد الجلاب، خطيب شيراز وفقيهها، وعن الجزري في البصرة، واتصل بالفقيه الشافعي الشيرجي الفرضي الحاسب ولازم القاضي أبا الطيب، وبذلك برع في الفقه والأصول والخلاف والجدل وله شأن كبير في المناظرة وكل شيوخه مذكورة في كتابه القيّم طبقات الفقهاء الذي يعد مصدراً أصيلاً ومهماً ففيه أرخ لمجموعة كبيرة من الفقهاء بذكر أنسابهم وأعمالهم وأعمارهم وأحوالهم ومؤلفاتهم وصفاتهم والتعريف بشيوخهم وتلامذتهم وأنسابهم وأصحابهم ووفاتهم، وفي ذلك تقديم لصورة دقيقة عن تطور الفقه من خلال ذكره للرجال على مر الزمن، وهو مرجع مهم للمجرى الفقهي على مر الزمن، بالتالي هذا الكتاب من الكتب المهمة لدى المسلمين لأنه شمل مختلف مناطق الأمة العربية والإسلامية لانتشار المذاهب الأربعة والظاهرية في العالم الإسلامي.
الإمام الشيرازي كان غاية في الورع الديني ومحاسنه لا تعد ولا تحصى، وكان مضرب المثل في الفصاحة والمناظرة، وذكر السبكي كان الطلاب یرحلون الى الشیرازي من المشرق والمغرب لطلب العلم منه، وهـذا یدل على المكانة التي حاز عليها من بین أقرانه لسعة علمه ودرایته وفقهه، وهذا أمر مرده إلى الشيوخ المهمين الذين تتلمذ على أيديهم، ولعب دوره كمعيد في المدرسة النظامية دور بارز في قدرته على تأليف الكثير من الكتب، التي اعتبرت ثروة علمیة كبیرة من أمهات الكتب التي یرجع إليها العلماء، منها، التبصرة في أصول الفقه، تذكرة المسؤولين في الخلاف بين الحنفي والشافعي، التنبيه في فروع الشافعية، رؤوس المسائل، طبقات الشافعية، طبقات الفقهاء، اللمع في أصول الفقه، نصح أهل العلم، وكتاب المهذّب وغيرهم، وهنا في إضاءة بسيطة حول كتاب المهذّب الذي شرحه وحققه الدكتور محمد الزحيلي (أستاذ وفقيه مسلم، يحمل شهادة الدكتوراه في الفقه المقارن بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى (1971) من كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، من علماء الشام الكبار)، إذ يُعتبر كتاب المهذّب عمدة كتب المذهب الشافعي في أقوالهم وآرائهم، وفي بداية تحصيلي العلمي في هذا الجانب، أذكر أني تشربت هذه الشخصية من استماعي لمحاضرات الدكتور محمد حسن هيتو، وهو من العلماء الشافعيين الأصوليين السوريين الكبار الموجود في الكويت، واستمعت له وهو يتكلم بحب وشغف عن هذا العالم الجليل، بالتالي، بجهود الدكتور الزحيلي وآخرين في حضرموت باليمن أصبح هذا الكتاب مبصراً للنور بطبعة جديدة، والآن يُدرس في جامعات أندونيسيا وماليزيا وغيرهما.
كتاب المهذب للإمام الشيرازي، كتاب جليل المقدار عظيم الإعتبار، جمع فروع الفقه الشافعي مع أدلتها الشرعية من الكتاب والسنة، حيث وضح المسائل وحررها وأورد آراء أصحاب المذهب، عليها، وقد اهتم به أكابر الأئمة العلماء ما بين شارح له ومبين للغويات ومخرج لأحاديثه، في هذا الكتاب التزم الشيرازي العودة إلى كتب الإمام الشافعي، ليبني منها أصول مذهبه الفقهيّ بأدلتها، وبين ما يتفرع على هذه الأصول من المسائل المشكلة بعللها، فكان خير معين للعلماء وكانوا يتبارون في فهمه، وعكف عليه المحققون بالدراسة والتدريس، وفي الشروح والحواشي، وفي التعقيبات والتذييل، وفي التصحيح والتوضيح، وفي بيان لغاته ومشكلاته وغوامضه، وفي تخريج أحاديثه وآثاره، يعتبر كتاب “المهذب” من أهم المختصرات، في الفروع، وهو امتداد لكتب الفقه الشافعي، ومن أهمها: كتاب الأم ثم مختصر المزني، الذي تفرع عنه الحاوي الكبير للماوردي، ونهاية المطلب للجويني، وتفرع من نهاية المطلب كتب أبي حامد الغزالي، التي تفرعت منها كتب الرافعي، ثم النووي الذي قام بشرح المهذب في كتابه المجموع، وقال: (واشتهر منها لتدريس المدرسين، وبحث المشتغلين: “المهذب والوسيط”، وهما كتابان عظيمان صنفهما إمامان جليلان: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، وأبو حامد محمد بن محمد الغزالي رضي الله عنهما، وتقبل ذلك، وسائر أعمالهما منهما).
وهذا الكتاب من أهم كتب الفقه الشافعي وقد حوى من الأعلام واللغات ما يحتاج إلى شرح وتفسير، وقد ألفه على طريقة الفقه الشافعي لدى العراقيين، لأنه كان نزيل بغداد عند تأليفه، وقد تصدر هذا الكتاب في العراق خصوصاً والمشرق الإسلامي عموماً ولم يطبع منه إلا طبعتين، ولا يزال الكثير من كتبه عبارة عن مخطوطات، ففيه كان يضع قولان ووجهان دونما ترجيح، ربما لغايةٍ في نفسه، ويعود سبب تأليف الكتاب من قبل الإمام الشيرازي الذي كان يُشار إليه بالبنان في مسائل الخلاف، وخصوصاً الخلافيات بين مذهب الإمامين أبي حنيفة والشافعي، وصنف الشيرازي الكتاب ليبين أن علمه الغزير “المهذّب”، وقد استغرق في تأليفه 14 عاماً، وقال الدكتور محمد الزحيلي محقق كتاب المهذّب في المقدمة: (وصرف الشيرازي همته إلى تصنيف هذا الكتاب، مستنداًعلى إنتاج سابقيه في المذهب الشافعي، ومطلعاً على جميع ما كتبوه وصنفوه، ليصوغ فقه الشافعي بعبارة مسبوكة ويختصر أقوالهم ويشير إلى اختلافهم، ويبين ما يعتمد منها أحياناً وينطلق من نصوص الإمام الشافعي في كتبه الجديدة، كالأم والإملاء والمختصر وغيرها).
صنف الشيرازي في الأصول والفروع والخلاف والمذهب كما ذكرنا آنفاً، وكان زاهداً، ورعاً، متواضعاً، ظريفاً، كريماً، جواداً، طلق الوجه، دائم البشر، مليح المحاورة، تفرد بالعلم الوافر مع السيرة الجميلة، والطريقة المرضية، جاءته الدنيا صاغرة، فأباها، واقتصر على خشونة العيش أيام حياته، وكان يضرب به المثل في الفصاحة والمناظرة وأقرب شاهد على ذلك قول سلار العقيلي أوحد شعراء عصره: (كفاني إذا عن الحوادث صارم *** ينيلني المأمول بالإثر والأثر)، (يقد ويفرى في اللقاء كأنه *** لسان أبي إسحاق في مجلس النظر)، كذلك لم يكن الشيخ أبو إسحاق ممن يهابون صولة السلطان ويشفقون على أنفسهم من سطوة أولي الأمر، بل كان جريئاً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، لا يلتفت إلى ذي نفوذ، ولا يمنعه صولة صاحب السلطان، بل يقول الحق غير وَجِل ولا هيّاب من عاقبة صدقه ومغبّة صراحته، وكان الحكام يهابونه ويعتبرون رأيه وينصاعون لأمره، وقد حُكي عن الشيخ أن كثيراً من أهل العلم نعتوا الوزير نظام الملك بالعدل، وأسبغوا عليه صفات الخير، وزعموا أنه من أهل الجنة، وذلك عندما استفتاهم عن نفسه. بيد أن الوزير لم يعتبر بشهادات هؤلاء ولم تُرْضِهِ أقوالهم فيه، بل آنس منهم المجاملة التي تفرضها سطوة الوزارة وهيبتها، فعزم على أن يستفتي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي؛ لما يعرفه عنه من الورع والصدق والجرأة في الحق، فكتب إليه الشيخ يقول: الحسَنُ خير الظَّلَمة، وكان اسم نظام الملك: الحسن، فلما قرأ نظام الملك ذلك، قال: صدق الشيخ، هذا هو الجواب. وأوصى أن يجعل ما كتبه الشيخ في كفنه بعد موته.
من هنا، خرجت أقوال سديدة وقوية في حقه، قال السمعاني: هو إمام الشافعية ومدرس النظامية، وشيخ العصر، رحل الناس إليه من البلاد وقصدوه، وتفرد بالعلم الوافر مع السيرة الجميلة والطريقة المرضيّة، جاءته الدنيا صاغرة، فأباها، واقتصر على خشونة العيش أيام حياته، وقال أبو بكر الشاشي: أبو إسحاق حجة الله على أئمة العصر، وقال الموفق الحنفي: أبو إسحاق أمير المؤمنين في الفقهاء. ولما قدم أبو إسحاق نيسابور رسولاً تَلقَّوه، وحمل إمام الحرمين غاشية، ومشى بين يديه، وقال: أفتخر بهذا، وقال الإمام النووي: كان عامة المدرسين بالعراق والجبال تلامذته وأتباعه، وكفاهم بذلك فخراً، وكان ينشد الأشعار المليحة، ويوردها، ويحفظ منها الكثير، وكان الوزير ابن جهير كثيراً ما يقول: الإمام أبو إسحاق وحيد عصره وفريد دهره، ومستجاب الدعوة. وقال نظام الملك: وأثنى على أبي إسحاق، وقال: كيف حالي مع رجل لا يُفرِّق بيني وبين نهروز الفَرَّاشي في المخاطبة؟ قال لي: بارك الله فيك، وقال له لمَّا صبَّ عليه كذلك. وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني: حكى أبي قال: حضرت مع قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي عزاءً فتكلم الشيخ أبو إسحاق واجلاً، فلما خرجنا قال الماوردي: ما رأيت كأبي إسحاق، لو راه الشافعي لتجمَّل به.
ثمة نصوص وأقوال متناثر في بطون تراجمه، تفيد بأن الشيخ أبا إسحاق كان أشعرياً في عقيدته، كما أن هناك نصوصاً أخرى تفيد أنه لم يكن على عقيدة الأشاعرة، بل كان مناقضاً لها وراداً عليها، وأنه كان يقول بما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل في باب الاعتقاد، أي كان معتقده موافقاً للإمام أحمد، فبالنسبة لأنه كان أشعرياً، جاء ذلك بسبب أن الشيرازي كان على صلة وثيقة بالوزير السلجوقي نظام الملك، الذي كان يقدر الشيخ ويعظمه، ولذلك فقد بنى له مدرسة في بغداد ليتولى التدريس فيها، ومعلوم أيضاً أن نظام الملك كان أشعرياً وشافعياً، وكان يهدف من بنائه تلك المدرسة في بغداد إلى هدفين: الأول: بث العقيدة الأشعرية في وسط الحنابل، أما الهدف الثاني: أن تكون المدرسة منبراً للمسلمين السنة لملاحقة عقائد الشيعة، فإذا كان هدف نظام الملك هو بث المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية في تلك الأوساط، فإن مما ينسجم مع ذلك الهدف ويقرب الوصول إليه، أن تسند مهمة التدريس والإدارة فيها إلى من يؤمن بما يؤمن به نظام الملك، أما الرأي الآخر، أن ابن عساكر أورد ترجمة الشيخ أبي إسحاق في الطبقة الرابعة من المستبصرين بتبصير أبي الحسن الأشعري، ثم أورد قولاً لبعض الناس أن الشيخ أبا إسحاق لم يكن أشعرياً، فرده وزرى على قائله، فقال: وكان يظن به بعض من لا يفهم أنه مخالف للأشعري، لقوله في كتابه في أصول الفقه: وقالت الأشعرية: إن الأمر لا صيغة له وليس ذلك لأنه لا يعتقد اعتقادهم، وإنما قال ذلك لأنه خالفهم في هذه المسألة بعينها كما خالفهم غيره من الفقهاء فيها، أما الرأي الثالث، نقل ابن عساكر استفتاء وقع ببغداد عن قوم يلعنون أتباع أبي الحسن الأشعري ويكفرونهم، فأجاب عدد من أهل العلم، كان بينهم أبو إسحاق، فقال: الأشعرية أعيان أهل السنة ونصار الشريعة، انتصبوا للرد على المبتدعة، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، والرأي الرابع أنه عندما وقعت الفتنة بين الحنابلة والشافعية عد إلقاء القشيري خطبه ومحاضراته في النظامية ببغداد انضم الشيخ أبو إسحاق إلى جانب أبي نصر ابن القشيري ضد الحنابلة، بل كان من المتعصبين له فيها، والرأي الخامس، وهو ما ورد في المحضر الذي قدمه عقب الفتنة المذكورة مع جماعة من العلماء إلى نظام الملك، يشرحون فيه أسبابها ويستنصرون فيه الوزير على خصومهم الحنابلة، ثم ختموا المحضر بأن وقع كل منهم وذيل توقيعه بطلب نصرة السلطان أيضاً تأكيداً لما ورد في المحضر، وتحريضاً للسلطان ضد الخصوم، أما الرأي الأخير، أن المقريزي نص في خططه على أن الشيخ أبا إسحاق كان أشعرياً فقال: وحقيقة مذهب الأشعري رحمه الله: أنه سلك طريقاً في توحيد السماء والصفات بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه فمال إليه جماعة وعولوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك والشيخ أبو اسحاق والشيخ أبو اسحاق ابراهيم بن علي الشيرازي، وأياً كان الشيرازي، فهذا لا يقلل من أنه كان علامة فارقة في سماء العلم والعلماء في زمانه، وعلمه صالح لكل زمان ومكان ولكل المذاهب على الاختلافات التي بينها.
أخيراً هذا غيض من فيض عالم جليل، أفنى حياته في سبيل إعلام الإسلام والتنوير بالعلم واتباع النهج والعمل الصالح، وإن وردت آراء تعبّر عما يخالف عقائد أخرى، فذكرها ليس إلا في السياق التسلسل التاريخي للأحداث في ذاك العصر، فكلنا إخوة يجمعنا الإسلام والوحدة الإسلامية، بالتالي، كل تأريخ نتداوله نجد أن له وما عليه، وأن لكل زمان حسناته وسيئاته، وخلافاته، لكن لا يعني ذلك أننا نتبنى تلك الآراء المخالفة أو الموافقة، بل نتبنى النهج الذي أقرته الشريعة الإسلامية مسلكاً وعلماً لنا نسير على خطى السابقين من العلماء الأجلاء، بالتالي إن العالم الشيرازي، علّامة كبير وكتبه تحتاج إلى عناية كبيرة وتقديم رسائل وتحتاج أن تُبرز بمعنى تجديدها وإحيائها من جديد، كما تحتاج أن تُعلم هذه الشخصية خاصة للجيل الجديد، فهذه الشخصية العلمائية الإسلامية التي يُحتذى بمنهجها العلمي، وما إخراج سيَر هكذا قامات إلا لإتاحة المجال للجميع معرفة كيفة تعبوا وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل الإسلام من خلال الموروث القيّم الذي تركوه لنا.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.