في أحد صباحات أصفهان الساحرة التي انطلقنا فيها إلى بازار المدينة لأخذ (الصوغات) إستعدادا للعودة إلى أرض الوطن وإذ بنا نرى المدينة كأنها جلجلة وابل فهناك من يقدم حلوى الحلقوم اللذيذة وهناك من يقدم الليمون (المنعنع) وهناك من يهدينا التمر المحلى بالطريقة الفارسية ومع إنتباهتنا من تلك النشوة ومراجعة تذاكر الطيران لرحلة العودة أدركنا أن الجماعة يحتفلون بمنتصف شعبان وهذا ما يصادف عندنا (حق الليلة).
تأملت في دخول عادة (حق الليلة) لدينا في المناطق العربية المحاذية للشط الفارسي. وما سردته أعلاه يمنحني مؤشرا أن تلك العادة ربما قد وصلتنا من التجار الذين يعرضون منتجاتهم من مأكولات وحلويات في هذا الموعد مما رسخ قيمة هذا اليوم لما من فرحة تنتشر بين الأطفال فيه لحصولهم على محصول وفير من (الحلاوة) بالإضافة إلى وجود العادات ذات الطابع الديني الإجتماعي التي تتشابه وتتباين بين بقعة وأخرى وذلك أراه أمرا طبيعي فتلك تفاعلات بشرية مجتمعية معتادة محليا وإقليميا – كما أشار ابن خلدون لذلك في مقدمته الخالدة – في ظل الموقع الجغرافي التي تتفرد به شبه جزيرتنا العربية.
ويتكرر سنويا في هذا الموعد الصراع الفكري في شأن (حق الليلة) بين المؤيدين والمعارضين ولا أريد أن أقحم نفسي بينهم لأجل أن لا أعيش الضغط بين المطرقة والسندان ولكن لو تأملنا سنجد أن الكثير من الأمور نعدها من المسلمات لمجرد أننا درجنا عليها منذ الصغر وكبرنا معها لتصبح ذات هالة مقدسة نبني عليها منظومة فكرية دون الرجوع إلى أصلها ومن أين جاءت ولماذا جاءت لننساق في دوامة يجرم المساس بها والجرأة عليها خوفا من تبعات رفض المجتمع والظهور بمظهر المارق من الجماعة.
جمود التفكير ليست ظاهرة محصورة بعوالمنا الشرقية بل تنطبق على كافة الأمم أثناء مرورها بمراحل النمو الحضاري لديها – نمو وفتوة ونضج وقوة وانتكاسة وفناء – وإنتقائية التفكير تعد من مظاهر إنحراف الفطرة وإتباع سياسة القطيع، ومن الإساءة لنعمة العقل الذي ميزنا الله به أن نركنه عن النظر في (تخلوفة) من كان قبلنا فيورث فينا قصور الفكرة وتتشوه فينا الفطرة ونحرم أجيالنا اللاحقة من فرصة الحصول على مفاتيح التجديد الحضاري وذلك أمر ينطبق على الكثير والكثير في منظومة العادات والتقاليد والمظاهر الاجتماعية لدينا اليوم.
هنا أستحضر التحدي الذي واجهته وزارة الدفاع الأمريكية في بدايات القرن الماضي من سوء أداء سلاح المدفعية بسبب قاعدة الثمان ثوان التي كانت تطبق قبل إطلاق القذائف وبعد التحري و(التنبيش) توصلوا إلى أن أصل عادة الثواني الثمان جاءت لتكون فرصة لإبعاد الخيول عن المدافع التي كانت تسحبها في القرن التاسع عشر!
وعودا إلى (حق الليلة) فمن الخطأ زراعة بذرة الصراع في النشء بين المؤيدين والمعارضين وعلينا أن نعي أهمية التغاضي للحفاظ على وحدة المجتمع ذلك أن الناشئة لا يملكون كفاية النقد للسلوك فقط فتراه ينتقد الشخص ككل ويكبر على ذلك فيراه كائنا غير محبوب ولا مرغوب ولو تأملنا ذلك بصدق لوجدنا أن ذلك النهج هو سبب خراب الكثير من علاقاتنا الإجتماعية وعليه فإن فرحة اللحمة المجتمعية هي الباقية ونريدها أن تبقى كما بقيت في أصفهان فرحة (أعيادها الشعبانية).
محمد بن سيفان الشحي
٢٧ مارس ٢٠٢١ م