مصر الثقافة، مصر العلم والأدب والشعر، مصر الأزهر، وجامعة القاهرة والإسكندرية ومكتبتها العريقة، هذا البلد الذي يضم العباقرة والعلماء على مر التاريخ، أسمائهم محفورة من ذهب، لا يمكن لطالب علم في أي رقعة من كوكب الأرض أن يبدأ درس التاريخ والحضارة دون أن يستهل بمصر، مصر أم الدنيا.
هناك أسماء لامعة تركت بصمتها في مصر التي نعرف، كالإسكندر وصلاح الدين ومحمد علي، تركوا بصمات جلية في البناء والحضارة، لم يكن الإسلام ليجد طريقاً إلى القارة السمراء إلا عبر البوابة المصرية، إذ أن كل فتوحات الشمال الإفريقي، والسودان، والساحل والصحراء كانت مصر محطة انطلاقها، وحين ولى مسلمو أفريقيا وجوههم شطر البقاع المقدسة في مكة والمدينة قاصدين الحج والعمرة كل عام كانت مصر أيضاً محطة العبور، منها تزود الحجاج، وفيها أنس المسافرون من طول الرحيل، فهي قلب العالم العربي، وركن أركان أفريقيا، وواسطة عقد العالم الإسلامي، وصنع النيل أرض مصر على شكل نخلة باسقة، الوادي من أسوان إلى القاهرة جذعها، والدلتا من القاهرة إلى المتوسط جريدها المتشابك كمروحة خصبة. وهذه النخلة هي واحة في الصحراء يحيط بها الرمل والصخر من كل حدب وصوب.
إذا عدنا بتاريخ مصر، فقط 100 عام، وقرأنا تاريخ العلماء المعاصرين في تلك الحقبة، على سبيل المثال لا الحصر، الأديب حسن الزيات، وعباس محمود العقاد، وسيد قطب، وسعد زغلول، وأحمد عرابي، ومصطفى أمين، وإن ذكرنا شخصيات الأزهر الشريف، كالشيخ المراغي، وعبد الحليم محمود، فشخصيات مصر كثيرة بحيث لا يتسع المقال لذكرها، حتى الشخصيات القانونية أيضاً، كفتحي زغلول، هذه الشخصية القانونية المتمثلة بزغلول، الذي ترجم الكثير من كتب القانون الفرنسي إلى اللغة العربية، وأي قانوني لا يمكن له أن يستغني عن قراءة هذه الكتب التي هي مراجع مهمة في مسيرة أي قانوني بكل تفرعاته، محامي أو قاضي، أو وكيل نيابة، ففتحي باشا زغلول، عبقري من عباقرة مصر، وأيضاً، لا ننسى هذا المحامي الفذ، الذي كان وزيراً للمالية، ووزيراً للمواصلات، فبعد وفاة سعد زغلول، كان هذا الإنسان، شخصية قبطية وفدية ليبرالية جميلة، نتحدث هنا عن مكرم عبيد باشا.
مكرم عبيد باشا، (1889 – 1961) أحد زعماء الحركة الوطنية المصرية في القرن العشرين، ووزير المالية الأسبق، وأحد أبرز مفكِّري مصر في حقبة الخمسينيات، وصاحب المقولة الشهيرة: “نحن مسلمون وطناً ونصارى ديناً، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصاراً. اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين”، ولد مكرم عبيد في مدينة قنا بصعيد مصر لعائلة مسيحية مرموقة، درس القانون في جامعة أكسفورد، وحصل على ما يعادل درجة الدكتوراه في ذلك الوقت، كما عمل سكرتيراً لجريدة الوقائع المصرية، عيّن بعد ذلك أستاذاً في كلية الحقوق، ثم انضم إلى حزب الوفد، وعمِل في مجال الدعاية والترجمة ضد الاحتلال، وامتد نشاطه الدعائي لإنكلترا وألمانيا وفرنسا، وعندما نُفي سعد زغلول، كثَّف “عبيد” نشاطه الدعائي ضد الاحتلال في الخطب والمقالات الوطنية التي كان يلقيها؛ ممَّا دفع الاحتلال للقبض عليه ونفيه.
وكان مكرم عبيد أول من قال عبارة “مصر ليست وطناً نعيش فيه ولكنها وطن يعيش فينا”، تمتع مكرم عبيد بشعبية طاغية ومكانة متميزة بصفته المصرية وليس بصفته المسيحية، وارتبطت أهم مأثوراته بالدين الإسلامي.
نذر “عبيد” حياته المهنية كمحامٍ للدفاع عن المتهمين السياسيين، ولا تزال أصداء مرافعاته مسموعةً في تاريخ المحاماة في مصر، وربما كانت أبرز القضايا التي تولى الدفاع عنها قضية اتِّهام عباس العقاد بسب الذات الملكية، نتيجة لهذا العطاء السياسي والنشاط المهني، اختير نقيباً للمحامين ثلاث مرات. ويُعد عبيد من مؤسسي الحركة النقابية في مصر الحديثة؛ فقد كان الواضع الأول لكوادر العمال في مصر وما يخصهم من تأمين اجتماعي، وصاحب فكرة الضريبة التصاعدية ونظام التسليف العقاري الوطني.
مكرم عبيد أديب ومفكر، الأهم أنه شخصية وطنية مصرية، قدّمت لمصر الكثير، وكرّم أيما تكريم، ففي مصر شارع مهم في مدينة نصر في القاهرة باسم “مكرم عبيد” ربما هذا الاسم ورد على مسامع الكثيرين، لكن قلة قليلة من يعرفون هذا الرجل الفذ، وهذه القامة الوطنية، وما من أحد سيعرفها إلا عندما يقرأ عن إنجازات هذه الشخصية الوازنة، مكرم عبيد شخصية يُستحق الوقوف عندها مطولاً وقراءة سيرة حياته، المهنية منها تحديداً، سواء عندما كان بالوفد أو عندما كان محامياً ممارساً، مكرم عبيد يستحق أن نقرأ له وهو الذي أرتدى عباءة الوطن خالعاً للانتماء الديني أي دور في مسيرته.
هناك قصة مشهورة للأستاذ مكرم عبيد في المحاكم المصرية، التي ذكرناها آنفاً دون تفصيل، وملخص القصة أن وقعت خصومة بين شخص مسلم وشخص قبطي، ويبدو أن أصل المشكلة كانت ذات صلة بالدين، فالقبطي اشتكى على خصمه المسلم، متسلحاً بالشهود، وكانت الدعوى حول “شتم الدين”، والشخص المسلم وكّل المحامي مكرم عبيد “القبطي” للدفاع عنه، وهذا بعرف المحامين أمر مهم، أي قضية تأتي لأي موكل من أي دينٍ كان وبصرف النظر عن أي شيء آخر، على المحامي أن يكون مع الحق، من هنا كانت عبقرية الكبير مكرم عبيد، فبعد أن قرأ القضية، طلب عبيد من القاضي الذي يعلم بأنه قبطي، بإسقاط الدعوى، بقرينة أن مادة في الدستور المصري رقم /7553/ تقول إن الأحكام تُستمد من الأحكام الشريعة الإسلامية ومما جاء في القرآن الكريم، وهذا يعني بدون أدنى شك أن أقباط مصر متأثرين بالثقافة الإسلامية، فاستدل مكرم عبيد بالآية القرآنية: (إن الدين عند الله الإسلام) فرد القاضي مبتسماً موجهاً سؤاله لعبيد، هل تؤمن بهذا الكلام؟ فرد بأن إيماني ينطلق مما جاء في الدستور المصري، ودين مصر الإسلام، وهذا جعل كل من كان في القاعة ينبهر لسرعة البديهة والثقافة المحصنة بتعاليم الدستور والإيمان بمواده، والتصفيق له أبلغ رد على ذلك.
بالتالي، هذه الشخصية لا يمكن أن تُحتسب على طرف ضد آخر، فالسواد الأعظم من شعب مصر هو مسلم، لكن رغم ذلك الثقافة هي من فرضت نفسها من خلال فهم الدينين، والتعامل بمنطق الرد المنطقي الذي استوجبه الموقف، فشخصية مكرم عبيد تكاد تكون الشخصية القانونية الوحيدة والمهمة آنذاك في الدولة التي حضرت جنازة الإمام حسن البنّا، ورثاه بمقال بعد استشهاده، مما جاء فيه: (إذا كنتم أيها الإخوان المسلمون، قد فقدتم الحاكم الأكبر، الخالد الذكر، فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذي أسلم وجهه لله حنيفاً، قد أسلم روحه للوطن عفيفاً) فهذه هي الروح الجميلة بين مكونات الشعب الواحد حتى وإن كانوا مختلفين فكرياً أو سياسياً، وهكذا هوالتناغم الجميل الذي تتمتع به الروح المصرية ، مصر ولّادة، فيها قامات عندما تقرأ عنها بكل المجالات، دينية وفقهية وقانونية وأدبية، تستحق منا أن نقرأ لهم ونتأمل في سيرهم ونشجع الجميع خاصة المهتمين بالفكر والدعوة والصحافة والقانون، لأن مثل هذه الشخصيات تملك رصيداً لا ينازعها عليه أحد، ومصر الآن وقبل وفي كل وقت، النفوس تهفو إليها، لجمالها وإبداعها وحضارتها وثقافتها، مصر تاريخ إنسان يجمع كل الديانات في وطن هو لكل إنسان.
الآن، هناك حالة ضياع في عالمنا العربي، ومصر شقيقة العرب، وحين يصح العزم وتمتلك مصر إرادتها في إعادة أمجادها التي نعرف، كقوة على جميع الأصعدة، ستتحول مصر خلال عقدين إلى ثلاثة عقود من “دولة صنعت التاريخ” إلى “دولة تستعيد الماضي الجميل وتنهض بالمستقبل”، ولأنها ولّادة فهذا ما نأمله، فمصر عمق التاريخ والحضارة الضاربة، ولنا فيها أجمل الذكريات.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.