لطالما كانت القارة السمراء حاضرة في قصص الطفولة، وعلى مقاعد الدراسة، في مادة الجغرافيا، والعلوم الطبيعية، حول الغابات الإستوائية، والقبائل والصحراء والطبيعة والمحميات الطبيعية سواء نباتية أم حيوانية.
أفريقيا كانت ولا تزال تحت نير الاستعمار رغم تحررها، لكنها مسيطر عليها إن كان من خلال البعثات التبشيرية أو قوات حفظ السلام الغربية التي اختارت أغنى الدول فيها ووضعت قواتها فيها، فكيف لا وهذه القارة غنية بمناجم الذهب والألماس والمعادن وأمور أخرى، بالتالي، إن إفقار القارة السمراء ممنهج ومدروس والغاية استعمارية، فلنتخيل أن أصحاب الأرض هم المنقبون في المناجم عن المعادن النفيسة لصالح المستعمرين، وربما هذه الظروف هي من فجرت ربما بعض الأسماء المغيبة عن العالم والتي لم تُتح لها فرصة العالمية ولا حتى على المستوى المحلي، لأن النهج الاستعماري ليس فقط سرقة مقدرات الشعوب، بل طمس هويتهم وإلهائهم في صغائر الأمور لتبقى السيطرة عليهم سهلة دائماً.
المجتمعات الأفريقية، هي مجتمعات أصيلة، بكل تفاصيلها، بساطة، تواضع، حفاظ على العادات والتقاليد، ومن المعروف أن للقارة امتداد في عمق العالم العربي، لذلك نجد تقارباً في بعض الأمور واختلافاً في البعض الآخر، لكن في مطلق لأحوال، الجامع أكثر من المفرق لولا بعض القضايا التي يتدخل الغرب فيها دائماً مما يعود بالضرر على هذه القارة بشكل عام.
الأفارقة منذ قدم التاريخ يملكون آدابهم الخاصة ممزوجة برائحة الأرض وتضاريس التاريخ الطويل، ومن بين تلك الدول التي اخترت الحديث عنها، الصومال، البلد الفقير بإمكانياته التي أنا على قناعة أن الاستعمار هو السبب، والغني بأهله وأبنائه، المجتمع الصومالي لطالما شكّل رافداً للثقافة والحياة وتفاصيلها، والتاريخ الفني والحضاري للصومال التي طالما وُصف “أمة الحرب والشعر”، وبلداً رائداً في محيطه حضارياً وأدبياً، لكن الحرب كانت أقوى من انتصار الأدب عليها، فانهار الأدب إلا القلة القليلة المتبقية، حتى بدت الصومال في المخيلة العالمية دولة الفشل والمجاعة والقرصنة، وأمة لا تملك ماضياً مشرقاً وثقافة بامتداد المحيط وأدباً بقدسية الشعر والحِكم في بلاد أنهكتها الحروب.
لا أحد ينكر إبداع الممثل الأمريكي، توم هانكس، وشخصياً من معجبيه، لقدرته على إعطاء أي شخصية حقها، فهو يملك أداءً رائعاً ومقنعاً إن كان في فيلمه عن قصة حقيقية حول تبادل أسير روسي معتقل لدى الولايات المتحدة وأسرى أمريكيين موجودين في برلين في فترة الحرب العالمية الثانية، أو فيلمه عن موظف خدمة الشحن الدولي وسقوطه في جزيرة نائية لوحده، أو فيلمه عن دور القبطان سالي الذي أنقذ أكثر من 200 راكب عندما اتخذ قرار إسقاط الطائرة في نهر هدسون، وفيلم كابتن فيلبس الذي تعامل مع قراصنة صوماليين سيطروا على سفينة شحن أمريكية، وسأركز على فيلم “كابتن فيليبس” فمن حيث التشويق والإثارة هو فيلم أكثر من رائع، من إنتاج العام 2013، لكن هل سأل المشاهد نفسه سؤالاً واحداً فقط، لماذا تفجرت هذه المظاهر، لأن الفقر بشع وشنيع وقبيح، لو توفرت الموارد للعيش الكريم لكانت الجريمة في أقل معدلاتها في كل العالم، فلا يوجد بالولايات المتحدة ذاك الفقر مقارنةً مع بعض الدول العربية والأفريقية، لكن معدل الجرائم مرتفع بنسبة كبيرة وآخر ما كان حادثة إطلاق النار على 14 طفل من موتور ومراهق أمريكي، فالشيء بالشيء يُذكر، لولا تدخل الحكومات الغربية في خصوصية تلك البلاد وسرقة مقدراتها لما وجدنا مظاهر فقر أو قرصنة ولا حتى أصغر الجرائم، لكن مع الأسف واقعنا مخيف جداً.
قد يسأل سائل، ما صلة ذلك بذاك، العلاقة هي أن الغرب يريد إيصال الصورة التي يريد وأحياناً يضخ ملايين الدولارات لطبع صورة سلبية أو إيجابية في ذهن الناس وهذه حقيقة وتدخل في سياق الحروب النفسية وهي أسلوب شائع جداً.
بالتالي ومن هذه المقدمة المحزنة على حال الكثير من الأمم ،يبقى الأدب والشعر، المتنفس الوحيد لأبنائه، ربما هو انعكاسات لأحوالهم، قد لا يقوون على مواجهة المستعمر بالنار والبارود أو الخطط الأخرى، لكنهم يشهرون سلاح الأدب لحفظ ما تبقى من بلادهم، فماذا يقول التاريخ عن الأدب الأفريقي عموماً، والأدب الصومالي على وجه الخصوص؟
استطاع أدب القارة السمراء أن يعكس ثقافة شعوبها ومآسيها وأحلامها في العقود الأخيرة ولا سيما مع جيل من المبدعين الأفارقة في بلدان غرب ووسط وشرق القارة، ففي أفريقيا كتّاب أبدعوا في تأليف روائع نقلتهم كأفراد إلى رحاب الأدب العالمي، فيما ظل الأدب الأفريقي يطاله التجاهل والنسيان، فما تزال إبداعات كُتاب القارة السمراء مجهولة لدى الكثيرين، بمن فيهم أبناؤها، حتى وإن تجاوز صدى أعمال هؤلاء من الناحية الجغرافية حدود القارة، ليمتد إلى الجهات الأربع من العالم، هذا هو الواقع المؤسف.
لدينا رواية “أشياء تتداعى”، هي رواية “ما بعد الاستعمار” بامتياز، وتعتبر من الأعمال الأدبية العظيمة في القرن العشرين، وتجسّد هذه الرواية المأساة الشخصية والجماعية لمحارب ينتمي لمجتمع الإيبو (جنوب شرق نيجيريا)، ولديناً أيضاً، رواية “نصف شمس صفراء” التي كتبت كرواية ملحمية ببراعة، وتطرح الرواية الكثير من القضايا مثل الاستعمار والتحالفات العرقية والمسؤولية الأخلاقية للصراع في نيجيريا، الذي تغذيه قوى عالمية، وأيضاً رواية “الخبز الحافي” التي تحكي السيرة الذاتية للمؤلف وتدور أحداثها في مدينة طنجة الساحلية وحالة الفقر والمجاعة التي كان يعيشها المؤلف والمجتمع المغربي في منطقة الريف بصفة عامة، في الوقت الذي يعيش فيه المحتلون من فرنسيين وإسبان حياة رغيدة، وهذا غيض من فيض كبير، لو تأملتم، لوجدتم الاستعمار مشترك في جميع الروايات وهذا هو الألم بحد ذاته.
أما الأدب الصومالي فهو يُعتبر المتحف الوحيد لهذا البلد الذي لا يزال يُعاني إلى الآن من تبعات الاستعمار بأشكاله المتعددة، فقد كان الصومال مدخلاً شرقياً لأفريقيا، وأمة ظلت تعتمد الكلمة في نقل الأدب والفنون والألغاز والألعاب والأساطير وسرد الأحداث، وكونه يحمل في طياته الشيء الكثير من التراث وحقائق عن الإنسان الصومالي وأصله الذي لا نجده في أروقة الكتب وبطون القصص المكتوبة، إذ كان الصوماليون يحفظون تاريخهم وعاداتهم وأنسابهم وأيامهم عبر قوالب أدبية قاومت على المتغيرات وبقيت ماثلة إلى يومنا هذا، والقصص المروية في بطون الشعر والحكايات الشعبية توثيق لحضارة أمة وماضي شعب ترك بصماته الواضحة في منطقته.
ورغم تنوع الأدب الصومالي إلا أن الشعر يعتبر عموده الفقري ومنبعاً مهماً للحضارة الصومالية، ومن أهم أنواع الأدب انتشاراً واستخداماً منذ قرون، حتى أصبحت الصومال بلد الشعر والقافية، إذ لم تكن الصومال دولة هامشية في تاريخها، بل كانت مسرحاً للأحداث ونضال الأدب والقوافي والنصال، ولكن وبعد الحروب والتشريد ووجود أجيال جديدة ولدت في المهجر بعيداً عن الأصالة والتقاليد من المطلوب دراسة الأدب الصومالي وخاصة الشعر والتعمق في الجوانب الغامضة للتاريخ والتراث، واستقصاء ما حوته الكتب القديمة، وأرشيف المستعمر، وألسنة المعمرين الذين يشكلون مكتبة عامرة عن تاريخ الصومال الجميل، أما إهمال الأدب الصومالي فمرده الحروب كما ذكرنا آنفاً.
ومن أشهر الأدباء الصوماليين، موسى حاجي إسماعيل جلال (1917 – 1980)، الكاتب والباحث واللغوي والمؤرخ والموسيقي، صاحب شهرة كبيرة بإنشاء الخط الصومالي، ولكن مع الأسف لم نعرف من أعماله إلا عملاً واحداً هو، “اختبار كاهن”التي تعتبر من أجمل القصص في تراث الأدب الصومالي، كانت معروفة لدى العالم الروسي الخبير في التاريخ و الأدب الصومالي، جورج كابتيتش – Georgi kapchits، وكان مما قاله العالم الروسي أن الأديب موسى حاجي إسماعيل جلال، لو لم يترك لنا من إرثه سوى هذه القصة لكفى.
من هنا، نتمنى أن نرى أعمالاً أكثر تحكي وتشرح الصومال وأفريقيا، فقهاً وأدباً وشعراً وتاريخاً، فلا بد من وجود تراث مغيب يحتاج أن يرى النور للحفاظ على الموروث لأنه حرز البلد وجزء من أصالتها، كما نتمنى أن نرى في السنوات القادمة أعداداً هائلة من الكتّاب والمؤلفين الذي يبرزون الجوانب المغيبة لتراثهم، وألا يجعلوه مندئراً لأن ذلك يخدم الاستعمار وهو ما يريده أساساً فلن نسمح بذلك، وننظر روائع الأعمال في القريب العاجل، الصومال وكل البلاد يجب أن تزدهر بوجود المخلصين من أبنائها.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.